Friday, November 24, 2017

لوحات عالميـة – 430

لله ما أعطـى ولله ما أخـذ
للفنان البريطاني فـرانك هـول، 1868

كان الرسّام فرانك هول معروفا بتعاطفه الشديد مع أحزان وهموم الفقراء والمحتاجين. وكان يزور قرى الصيّادين ويرسم النساء والأطفال داخل بيوتهم المتواضعة.
بل انه لم يتردّد في دخول الأحياء الواقعة في أطراف لندن، رغم خطورتها. وقد رسم من واقع زياراته تلك مناظر لم يكن الناس قد رأوها من قبل، وإن كانوا قد قرءوا عنها في روايات تشارلز ديكنز وغيره من الكتّاب الواقعيين الانجليز.
في ذلك الوقت، كان الفنّانون يفضّلون رسم مناظر للرجال وهم يزاولون أعمالهم اليومية. لكن هول كان يركّز على النساء والأطفال ويرسم ردود أفعالهم على الكوارث والموت.
في إحدى لوحاته ، يرسم الفنّان زوجة صيّاد وهي تدفن وجهها بين يديها تعبيرا عن قلقها، إذ تنتظر ما يبدو وكأنه أخبار محزنة عن زوجها.
وفي لوحة أخرى ، نرى أمّاً حزينة فقدت طفلها للتوّ. وإلى جانبها تظهر طفلتها الأخرى وهي تنظر إليها بحزن إذ لا تعرف ما الذي يمكنها فعله للتخفيف عن أحزانها.
في زمن هول، كانت الوفيات في أوساط الأطفال الرضّع عالية جدّا، خاصّة بين الفقراء. وكان طفل من كلّ خمسة أطفال يموت قبل بلوغه الخامسة بسبب تفشّي الكوليرا والسلّ ونقص الرعاية الصحّية.
من خلال هذه النوعية من المناظر، كان الرسّام يهدف إلى توعية الناس بمشاكل ومعاناة الفئات الاجتماعية البسيطة والمهمّشة. وكان اهتمامه بالتفاصيل كبيرا، لدرجة أن لوحاته اليوم تُعتبر سجلا فريدا لظروف الحياة في انجلترا خلال القرن التاسع عشر.
في هذه اللوحة، يصوّر الفنّان عائلة يرتدي أفرادها ملابس الحداد السوداء ويجتمعون حول طاولة بعد أن فقدوا والدهم. وموضوع اللوحة مستوحى من رواية شعبية تتضمّن مشهدا لعائلة بالملابس السوداء.
وبينما هم مجتمعون وصامتون وأعينهم مطرقة إلى الأرض، يدخل عليهم الأخ الأكبر ويشغل الكرسيّ الفارغ في الغرفة، في إشارة إلى انه سيصبح مسئولا عن أفراد الأسرة بعد رحيل معيلهم.
رسم هول هذه اللوحة عندما كان في الرابعة والعشرين، واسمها مقتبس من كلمات منسوبة للنبيّ أيّوب عليه السلام. أما الأشخاص الظاهرون فيها فهم أفراد عائلة الرسّام نفسه.
وقد نال عليها ثناء النقّاد والجمهور، كما كافأته الأكاديمية الملكية بابتعاثه إلى ايطاليا لمواصلة دراسته فيها. وقد أبدت الملكة فيكتوريا رغبتها في شراء اللوحة، إلا أن الرسّام رفض أن يبيعها أو يتخلّى عنها.
في إحدى المرّات، ذهب الفنّان إلى احد السجون ورأى فيه امرأة وأطفالها وهم يزورون عائلهم الذي كان نزيلا في ذلك السجن. وقد استخدمهم في رسم إحدى أفضل صوره ورسمها داخل السجن وجسّد فيها شعور الإنسان في الأسر.
لوحات فرانك هول ربّما تبدو للمتلقّي الحديث عاطفية أكثر من اللازم، لكنها في زمانه اعتُبرت تحفا واقعية مهمّة. وكان من بين معجبيه فان غوخ الذي جمع بعض أعماله المحفورة على الخشب. كما أعجب به جورج واتس الذي يُعدّ احد أشهر الرسّامين الفيكتوريين.
ولد فرانك هول في يوليو من عام 1845 لأب كان يعمل هو الآخر رسّاما. ومنذ طفولته علّمه والده بأن من واجبه أن يسهم في تغيير المجتمع إلى الأفضل. وفي سنّ الخامسة عشرة، انتظم في الأكاديمية الملكية لدراسة الرسم.
ولوحاته المبكّرة كانت أيضا تتناول فقر الطبقة العاملة، وهو أمر كان يعكس تربيته الاشتراكية. لكنه انتُقد أحيانا للمضمون السياسيّ للوحاته، فتحوّل إلى المواضيع الدينية على الرغم من انه لم يكن يحبّها كثيرا.
بدأ الرسّام عرض أعماله في الأكاديمية في سنّ الثامنة عشرة. ثم عمل في إحدى مجلات الرسومات الأسبوعية وأنتج وقتها سلسلة من الصور التي كانت ترافق القصص المنشورة. وبعد ذلك ذهب إلى ايطاليا، لكنه قطع دراسته هناك بعد شهرين وعاد إلى انجلترا.
ثم قرّر أن يذهب إلى اسبانيا، فزار مدريد وتجوّل في متحف برادو ودرس أعمال فيلاسكيز الذي كان رسّامه المفضّل بالإضافة إلى كلّ من رمبراندت وفان دايك.
وفي ما بعد، تحوّل هول إلى رسم البورتريه لأنه كان بحاجة إلى المال ولأن بعض النقّاد هاجموا أسلوبه آنذاك باعتباره موضة قديمة. وقد رسم بورتريهات لبعض المشاهير في وقته، مثل المؤلّف الموسيقيّ آرثر سوليفان ووليام غلادستون رئيس وزراء انجلترا.
توفّي فرانك هول في يوليو من عام 1888 عن عمر قاربَ الثالثة والأربعين بعد إصابته بأزمة قلبية مفاجئة. ومعظم أعماله لم يعد يراها الناس هذه الأيّام نظرا إلى أنها مملوكة لمجموعات خاصّة.

Sunday, November 19, 2017

لوحات عالميـة – 429

متحف صُوَر لمناظر من روما الحديثة
للفنان الايطالي جيـوفاني باولـو بانيـني، 1759

كان جيوفاني بانيني أشهر فنّان رَسَم معالم مدينة روما. وهو يشبه كثيرا مواطنه الرسّام كاناليتو الذي اشتهر برسوماته لمدينة فينيسيا. وقد رسم الاثنان العديد من اللوحات التي كانت تروق لزوّار المدينتين من الأجانب.
وبفضل لوحاته التي كان العديد منها يصوّر آثار روما القديمة، أسهم بانيني إلى حدّ كبير في الترويج للسياحة في ايطاليا والتعريف بمعالمها.
وكانت مناظره مطلوبة كثيرا من قبل زوّار المدينة، خاصّة الشغوفين بالآثار الكلاسيكية. وكانوا يشترونها للاحتفاظ بها كتذكارات للمدينة ولصروحها القديمة والمشهورة.
كان معظم زبائن بانيني من انجلترا، وكان بينهم أمراء ونبلاء وتجّار. وفي ما بعد انتقل ذلك الشغف بايطاليا وحضارتها إلى الأمريكيين في القرن التاسع عشر.
كانت رسومات هذا الفنّان لمباني وآثار روما تتميّز بدقتّها ووضوحها، وكان أحيانا يضعها في سياق غير مرّتب ويضفي عليها عناصر من الحقبة الرومانسية ومن أواخر عصر الباروك. ولطالما أثارت تلك الصور الحنين إلى ايطاليا كأرض قديمة وخالدة.
هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من أربع لوحات رسمها بانيني لروما وضمّنها صورا لأهمّ معالم المدينة القديمة والحديثة، وذلك على شكل أعمال فنّية من لوحات وتماثيل موضوعة في متحف متخيّل.
وقد كلّفه برسم اللوحات الأربع الدوق ايتيان فرانسوا دي ستينفيل الذي كان سفيرا لفرنسا لدى الفاتيكان في الفترة من 1753 إلى 1757. وقد أراد السفير من ورائها أن تكون تذكارا لإقامته في العاصمة الايطالية.
وهذه اللوحة تصوّر جزءا من معالم روما كما تبدو عليه زمن الرسّام، أي أنها صور معاصرة، وقد ضمّنها صورا لعدد من المباني والصروح واللوحات والمنحوتات التي كانت معروفة في روما في ذلك الوقت.
إلى اليمين، تظهر لوحات لكنيسة سانتا مارجيوري وبياتزا نافونا وفيللا آلدو برانديني، وإلى اليسار رسومات لكنيسة القدّيس بطرس ونافورة تريفي والدرَج الاسباني.
وفي الوسط، أربعة تماثيل هي من الأمام للخلف "أسد ميدتشي" وتمثال "موسى" لميكيل انجيلو وتمثالي "داود" و "دافني وأبوللو" لجيان لورنزو برنيني.
وفي اللوحة، كما في اللوحات الثلاث الأخرى، رسم بانيني راعيه وزبونه، أي السفير كجزء من المنظر. وهو يظهر جالسا على أريكة من الحرير الأحمر في منتصف المتحف ومحاطا باللوحات والتماثيل وأيضا بلوحات أخرى لبانيني. وكلّ هذه الصور تُبرز التفاصيل الدقيقة للمباني الرومانية والنوافير وغيرها من معالم روما في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما في ذلك ميدان القدّيس بطرس.
كان الدوق دي ستينفيل سياسيّا ورجل دولة بارزا في زمن الملك لويس الخامس عشر. كما كان جامع تحف فنّية مشهورا. ومثل الكثير من الأوربّيين، كان السفير مهتمّا كثيرا بالمناظر التي تصوّر ماضي روما وحاضرها.
وعندما انتهت فترة عمله في الفاتيكان، عاد إلى باريس برفقة اللوحات الأربع. لكن في عام 1760، تضاءلت حظوظه السياسية فجأة، فباع اللوحات إلى صديق له يُدعى جاك لوي راي.
ولد جيوفاني بانيني عام 1691، وتتلمذ على يد بينيديتو لوتي. ثم سجّل في أكاديمية سانتا لوكا. وأوّل لوحاته كانت بعنوان الاسكندر يزور قبر أخيل ، وفيها يبدو الأشخاص صغارا أمام المباني المعمارية الفخمة والشاهقة.
وفي إحدى لوحاته المبكّرة، يصوّر بانيني معبد البانثيون الرومانيّ، وفي الصورة يظهر مجموعة من الأشخاص الذين ينظرون بذهول وإعجاب إلى التفاصيل الداخلية للبناء الرائع، ومن بينهم رجال دين وجنود وسُيّاح.
وكلّ هؤلاء يبدون ضئيلين مقارنة بتفاصيل المبنى الضخم. كما أن المكان مرسوم بعناية ومغمور في ضوء منتصف الظهيرة الذي يأتي من فتحة دائرية في السقف.
في ما بعد، وابتداءً من عام 1711، استقرّ الرسام في روما وعمل كرسّام جداريات، لكنه لم يلبث أن تحوّل إلى رسم مناظر المدينة التي اشتهر بها بقيّة حياته.
درس بانيني علم المنظور في الأكاديمية الفرنسية بروما. وكان تأثيره قويّا على الرسّامين الفرنسيين والايطاليين، لدرجة أن الفرنسيين عيّنوه عضوا في أكاديمية باريس للنحت والرسم، وهو تكريم يندر أن ناله فنّان من قبل.
وبالإضافة إلى لوحاته ومناظره لروما التي يعرفه بها أكثر الناس، رسم بانيني أيضا مواضيع تاريخية ودينية. والعدد الكبير من لوحاته والنسخ الكثيرة منها، بالإضافة إلى الطبيعة التجارية لبعضها، تؤكّد انه كان يعتمد على ورشة كبيرة. وكان ابنه فرانسيسكو مساعده الأوّل في محترفه، وبعد وفاة الرسّام في أكتوبر من عام 1765، تولّى الابن مهمّة تسويق فنّ والده وطبع لوحاته على وسائط مختلفة.