Saturday, May 27, 2017

لوحات عالميـة – 393

رحلة بالقارب على ضفاف السين
للفنان الفرنسي بيير اوغست رينوار، 1879

قال ناقد ذات مرّة انه من بين جميع الرسّامين الانطباعيين فإن بيير اوغست رينوار يمكن تمييزه بسهولة. انه الرسّام العظيم لمتع الحياة البسيطة. ولوحاته في الغالب تصوّر أشخاصا يفعلون القليل أو لاشيء، لكنهم يفعلونه بطريقة جميلة.
وعندما تنظر إلى إحدى لوحات رينوار، فلا بدّ أن تتساءل عمّا يحاول أن يخفيه. عالمه المغسول بالشمس جميل جدّا وباعث على السرور كثيرا وخالٍ من التعقيد.
وإذا كانت الصورة انعكاسا للشخص، فإن رينوار سهل وبسيط للغاية. هو ليس بشاعر طبيعة غنائية مثل كلود مونيه، وليس باحثا معذّبا مثل بول سيزان، وليس ملاحظا جادّا مثل إدوار مانيه.
لوحات رينوار هي احتفاء بالرفقة الطيّبة والطعام الجيّد والطبيعة الرائعة، ولا مكان للظلمة السيكولوجية في عالمه المشمس والرتيب نوعا ما.
والمتع المرسومة في لوحاته بالفرشاة الانطباعية الفضفاضة تعتمد على فكرة أن تستمتع باللحظة التي أنت فيها ولا تفكّر أكثر ممّا ينبغي.
المناظر التي كان يرسمها رينوار وثّق فيها بأسلوبه المبتكر تفاصيل الطبيعة المتغيّرة في ذلك العصر والأنشطة الاجتماعية الجديدة التي جلبتها التحوّلات الطارئة. وأحيانا كان يستخدم الطبيعة لكي يقدّم أفكارا عنها وعن ارتباطها بالمجتمع.
كانت مناظر الطبيعة تمثل اهتماما جديدا لسكّان المدينة، فهي تذكّرهم بأعاجيب الطبيعة خارج المدن التي تنمو وتتغيّر باستمرار. كما أنها كانت تشعرهم بأهميّة استحداث أماكن للاسترخاء والترفيه داخل النسيج الحضريّ للمدن الحديثة.
في سبعينات القرن قبل الماضي، رسم رينوار عدّة لوحات تصوّر رحلات بالقارب على نهر السين. و"رحلة بالقارب على ضفاف السين" كانت إحداها. المكان الذي تصوّره اللوحة غير معروف تماما، لكن يُرجّح انه جانب من منطقة شاتو على السين غرب باريس.
في الصورة نرى امرأة تبحر مع أخرى في قارب صغير فوق مياه لامعة. وهما ترتديان ملابس عصرية وقبّعات قد لا تنسجم مع طبيعة الرحلة في البحر. لكن هذه النوعية من اللباس كانت الموضة الشائعة في حفلات القارب التي كان يقيمها أفراد الطبقة الوسطى الباريسية في أواخر القرن التاسع عشر.
المنظر يوصل إحساسا بالهدوء والأمان. واستخدام الرسّام للألوان البرّاقة وضربات الفرشاة الواسعة وتأثيرات الضوء والظلّ، كلّها تتضافر لخلق إحساس بالتلقائية والدفء.
على ضفّة النهر نلمح فيللا كبيرة وجدارا ابيض وبوّابة. والخضرة المحيطة تشكّل جزءا من مساحة للوقوف. وهذه التفاصيل تؤكّد طبيعة النهر كمكان هادئ يقضي فيه أفراد الطبقة الوسطى أوقات راحتهم. أما القطار الذي يمرّ في الخلفية فيذكّر بارتباط هذا المكان بالعاصمة وما تموج به من ازدحام وصخب.
الألوان البرتقالية للقارب تتباين مع زرقة النهر، والبرتقالّي والأزرق لونان متضادّان في الأساس، ويصبحان أكثر كثافة عندما يوضعان جنبا إلى جنب.
كان الموضوع المفضّل لرينوار هو العيش في اللحظة الراهنة والاستغراق في متع الحياة البسيطة. وقد عبّر عن هذه الفكرة في أعماله أكثر من أيّ رسّام انطباعيّ آخر.
كان يستمتع برسم أصدقائه في حفلات الغداء والعشاء موصلا إحساسا بالحميمية. وهذه اللحظات العابرة كثيرا ما تتحوّل إلى ذكريات وحنين لزمن مضى ولن يعود.
في بداياته، كان الفنّان يستخدم رسوماته للطبيعة كي يمارس فنّه في الهواء الطلق وليتحرّر من قيود الاستديو. وكانت الرسومات الأوّلية لمناظر خارج البيوت جزءا من التدريب الأكاديميّ الذي يتلقّاه الرسّامون عادة.
وهذه الأيّام هناك من الرسّامين من يعتقدون أن لوحات الطبيعة ينبغي أن تخلو من البشر. ومعظم الأعمال الفنّية التي ظهرت قبل رينوار كانت تتضمّن أشخاصا لتوفير سياق لقصّة ما.
ثم ابتكر كميل بيسارو فكرة الطبيعة النقيّة، وهو مصطلح استخدمه لوصف لوحات الطبيعة التي لا يظهر فيها أشخاص كلّيّة، أو يظهرون فيها ليضيفوا معنى أو وظيفة للتوليف.
واللوحات النقيّة التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر كانت ردّ فعل مضادّا لما أحدثته الثورة الصناعية من تغييرات ديموغرافية واجتماعية وثقافية.
ومعظم لوحات رينوار التي تصوّر طبيعة يمكن وصفها بالنقيّة، لأنها لا تتضمّن قصّة أو عنصرا سرديّا، وإنما تهتمّ في المقام الأوّل بالتركيز على عناصر جمالية مثل تأثيرات الظلّ والضوء وخلافها.

Monday, May 22, 2017

لوحات عالميـة – 392

دعوة الناسك متّى
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1599

قبل وفاة الكاردينال ماثيو كونتاريللي، أوصى بأن تُزيّن كنيسته بلوحة تصوّر سميّه الناسك ماثيو (أو متّى) الذي كتب أوّل الأناجيل والذي يحمل اسمه.
وقد توسّط راعي كارافاجيو وصديقه فرانسيسكو ديل مونتي لدى الكاردينال بأن يعهد بمهمّة رسم اللوحة إلى كارافاجيو الذي لم يكن عمره وقتها قد تجاوز الثامنة والعشرين.
ورسم كارافاجيو اللوحة بأسلوبه المسرحيّ والدراماتيكيّ المعهود. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى إحدى أيقونات الفنّ العالمي.
القصّة التي تصوّرها اللوحة بسيطة. والعبرة التي تحملها هي انه حتى أسوأ الناس وأفسدهم يمكن أن يتحوّلوا في نقطة ما من حياتهم إلى أشخاص أتقياء وصالحين.
وأصل القصّة أن شخصا يهوديا يُدعى ليفي كان يعمل محصّل ضرائب في مدينة الناصرة. وكان مثالا على الفساد والجشع. ثم حدثت له واقعة غريبة تخلّى بعدها عن كلّ ممتلكاته الدنيوية وأصبح إنسانا يُضرب به المثل في التقى والصلاح.
وبعد تلك التجربة تحوّل اسمه من ليفي إلى ماثيو أو متّى ثم أصبح مؤلّف أوّل إنجيل في المسيحية.
اللوحة تشبه لقطة من فيلم، وهي تصوّر اللحظة المفصلية في تلك القصّة التي تحدّثت عنها المصادر المسيحية القديمة. وفيها نرى مجموعة من الرجال مجتمعين في غرفة أنوارها خافتة، بينما يقطع خطّ من الضوء جدار الغرفة من اليمين إلى اليسار.
ماثيو ورفاقه الثلاثة، وكلّهم محصّلو ضرائب، يبدون منهمكين في إحصاء حصيلة ذلك اليوم من أموال الضرائب.
وبينما هم على تلك الحال، يدخل عليهم المسيح بمعيّة بطرس احد الحواريين، وهما يظهران في أقصى يمين اللوحة. المجتمعون يفاجَئون بدخول الضيفين الذين اقتحما عليهم المكان من دون دعوة.
ليفي، الشخص الملتحي والثالث من اليسار، يلاحظ ما حدث، وكذلك الطفل الذي إلى جواره والشابّ الجالس أمامه. الطفل يتراجع إلى الوراء باتجاه متّى وكأنه يتوسّل منه الحماية. أما الشاب المسلّح فيميل بجسمه قليلا باتجاه الزائرَين وكأنه يستطلع الخبر.
الضوء والظلّ يضيفان دراما إلى المشهد ويضفيان على الأشخاص تلقائية وحركة. وهم جميعا مغمورون بالظلال. والضوء الساطع على الجدار هو الذي يضيء المشهد.
الرسّام، من خلال توظيفه البارع لتقنية الظلّ والضوء، أضاف إلى المنظر المزيد من الحياة باستخدام الألوان المتوهّجة وتباينات الأحمر والبنفسجيّ والذهبيّ.
الرجال الملتفّون حول الطاولة يتكوّمون فوق المال، في إشارة إلى جشعهم وانشغالهم بالدنيا. وقد اختار كارفاجيو أن يُلبسهم ثيابا عصرية من أواخر القرن السادس عشر للإيحاء بأن هذا المنظر يمكن أن يتكرّر في أيّ زمان ومكان، وربّما كي يقرّب الفكرة أكثر من أذهان الناس في زمانه.
في تلك اللحظة، يُفاجأ الجميع في الغرفة بالظهور المفاجئ للمسيح وصاحبه اللذين يقطعان عليهم اجتماعهم.
تقول القصّة أن المسيح عندما دخل، نظر إلى ليفي وقال له: اتبعني". اليدان الممدودتان للمسيح وبطرس تؤشّران إلى متّى اكبر المجتمعين سنّا. ومتّى يشير بيده إلى صدره وكأنه يقول: من؟ أنا؟". والضوء ينعكس على وجهه ليوحي انه الشخص المقصود.
الأقدام الحافية والملابس البسيطة للمسيح ورفيقه الناسك تختلف عن الملابس الجميلة والملوّنة والعصرية التي يرتديها جامعو الضرائب. وبطرس يحمل في يده عصا في إشارة إلى انه والمسيح في حالة ارتحال دائم وليس لديهما مكان ثابت يأويان إليه.
كانت حياة متّى كلّها معتمدة على المال، وهناك قطعة نقد معدنية ملتصقة بقبّعته في إشارة إلى المكانة الأثيرة للمال في نفسه.
وربّما تلاحظ أن قدم المسيح تتّجه بعكس جسمه نحو الباب وانه لا ينتظر، فقد تمّ اختيار الشخص المقصود. وعلى متّى أن يحسم خياره بسرعة، فإما أن يستمرّ في الجري وراء المال وإما أن يتخلّى عن أسلوب حياته الماضية ويختار المسيح. أصدقاؤه يستندون إليه لحمايتهم ويشكّلون حاجزا بينه وبين الزائرين الغريبين.
مؤرّخو الفنّ يقولون إن هيئة يد المسيح الممدودة تحاكي حركة يد آدم في لوحة ميكيل انجيلو "خلق الإنسان". وهذه الجزئية تتوافق مع تقليد قديم في المسيحية ينظر إلى المسيح على انه آدم الثاني.
وبعد قليل سينهض ليفي من مكانه ويتبع المسيح إلى خارج الغرفة وسيصبح "الرسول متّى" الذي تتحدّث عنه الأدبيات المسيحية.
طريقة جلوس الأشخاص في اللوحة تشبه ترتيب الشخصيات في لوحة كارافاجيو الأخرى "غشّاشو الورق"، بل حتى معظم الأشخاص الذين استخدمهم الرسّام كنماذج في هذه اللوحة هم نفس الأشخاص الذين يظهرون في تلك اللوحة.
قصة متّى رسمها العديد من الفنّانين أشهرهم جيوفاني لانفرانكو وهندريك بروغين وبرناردو ستروتزي. غير أن تصوير كارافاجيو لها يُعدّ الأفضل والأشهر.
لكن المشكلة أن سيرة حياته لا تتناسب مع موضوع اللوحة. فقد كان بلطجيّا وسكّيرا ومثيرا للمشاكل. غير أن الكنيسة غفرت له أخطاءه واستمرّت في تكليفه برسم لوحات لحسابها.
لكن حدث بعد ذلك أن قتل كارافاجيو رجلا ثم حُكم عليه بالموت. ففرّ هاربا إلى مالطا. وقد اصدر البابا حكما بالعفو عنه، لكنه مات فجأة بالحمّى عام 1610 وعمره لا يتجاوز الثامنة والثلاثين.