Saturday, September 27, 2014

لوحات عالميـة – 355

امـرأة بفستـان اصفـر
للفنان النمساوي ماكسيـميليـان كورزويـل ، 1899

بعض الرسّامين ليسوا معروفين على نطاق واسع، مع أن لهم أعمالا مشهورة ومألوفة إلى حدّ ما.
ومن هؤلاء الرسّام ماكسيميليان كورزويل، المولود عام 1867 في بلدة تقع اليوم في جمهورية التشيك.
كورزويل أسّس، مع غوستاف كليمت ورسّامين آخرين، حركة فنّية في فيينا في مطلع القرن الماضي أسموها "الانفصال" أو اتحاد الفنّانين النمساويين.
كانت الحركة تضمّ رسّامين ونحّاتين ومهندسين معماريين. وكان هؤلاء يلتقون في النوادي الليلية وفي المقاهي. وكانت لهم مجلّة تنطق باسمهم تُدعى "الربيع المقدّس".
كانت "الانفصال" ترفض تحويل الفنّ إلى سلعة أو تجارة وتؤكّد على فردانية الفنّان. كما كانت ترفض الأساليب المحافظة التي تركّز غالبا على المواضيع التاريخية والدينية. وقد أرسى أعضاؤها قواعد جديدة للفنّ الحديث واستفادوا من الخطوط القويّة لفنّ عصر الباروك.
وبشكل عام، كان أعضاء الحركة متأثّرين بالانطباعية الفرنسية التي عملوا على نشرها والترويج لها في أرجاء النمسا. وقد اخذوا عن الانطباعيين استخدامهم للألوان الساطعة وإظهار تأثيرات الضوء والظلّ.
في هذه اللوحة ذات الألوان الحيّة والنشطة، يرسم كورزويل زوجته "مارثا" وهي تجلس فوق أريكة. ذراعاها يرتاحان على طرفي الأريكة المطرّزة بأنماط خضراء. ومن الواضح أن الرسّام ركّز على لون الفستان الأصفر أكثر من أيّ شيء آخر، بتبايناته المتناغمة بطريقة ناعمة مع ألوان الأريكة.
الأنماط والألوان الكثيرة في اللوحة تؤشّر إلى افتتان الرسّام بالديكور وبالتصميم الزخرفي. والصورة تعطي انطباعا عن امرأة رصينة وواثقة، مع إحساس ما بالحزن. التعبيرات الواهنة والمنعزلة على وجهها ربّما تتضمّن نبوءة بالنهاية الدرامية والمشئومة لحياة الرسّام.
درس ماكسيميليان كورزويل الرسم أوّلا في أكاديمية فيينا للفنون الجميلة. ثم سافر إلى باريس لمواصلة دراسته، وعرَض بعض أعماله هناك.
وفي عام 1894، عاد إلى فيينا ليدرس رسم البورتريه. وقد تأثّر في رسمه للبورتريه بالرسّامين الانطباعيين الذين كانوا يوظّفون ألوانا أخفّ وأكثر سطوعا.
في عام 1895، تزوّج من مارثا التي تعود أصولها إلى بلدة بريتاني. وكان الاثنان معتادين على قضاء أشهر الصيف في بريتاني والشتاء في فيينا.
شارك كورزويل في العديد من المعارض الفنّية بأعمال مثل هذه اللوحة الموجودة اليوم في متحف فيينا للفنون. كما عمل أستاذا للرسم في أكاديمية فيينا للرسّامين من الإناث.
وقد أقدم كورزويل على الانتحار عام 1916 وهو في سنّ التاسعة والأربعين، بعد أن أطلق النار على إحدى طالباته في الأكاديمية والتي كانت تربطها به علاقة عاطفية.
ورغم أن حياته المهنية كانت قصيرة، إلا انه يُنظر إليه باحترام. ويعتبره الكثيرون احد أعظم ثلاثة رسّامين أنجبتهم النمسا. والاثنان الآخران هما غوستاف كليمت وإيغون شيلا.

Monday, September 08, 2014

لوحات عالميـة – 354

فينـوس وأدونيـس
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1635

كان الفنّ في عصر الباروك يتسم بالحسّية وسيادة اللون وحيوية الأشخاص والجاذبية العاطفية. وكان بيتر بول روبنز احد أشهر رسّامي ذلك العصر. وقد عُرف بتوليفاته الضخمة التي تفيض بالنساء المثيرات وبالكيوبيدات والشخصيات الأسطورية.
كان هذا الرسّام يلخّص المثل والقيم الجمالية لهولندا أو البلاد المنخفضة في القرن السابع عشر. وقد تأثّر بلوحات عصر النهضة وبالمنحوتات الكلاسيكية والأدب الإنساني بعد أسفاره المتعدّدة إلى كلّ من ايطاليا واسبانيا.
وعلى الرغم من انه كان كاثوليكيا متديّنا، إلا انه لم يكن ملتزما بالأفكار المتشدّدة في عصره ولم يطبّق الأساليب الأكاديمية والتقليدية السائدة آنذاك. وإلى جانب كونه رسّاما مشهورا، كان روبنز أيضا عالما ودبلوماسيا. وكان يتحدّث الفرنسية والألمانية والاسبانية، بالإضافة إلى لغته الأصلية.
من أشهر لوحاته هذه اللوحة عن الأسطورة الإغريقية التي تحكي قصّة فينوس وأدونيس.
أدونيس، كما تقول الأسطورة، كان أجمل إنسان في العالم. كان مولودا من شجرة. ولم يكن يحبّ شيئا قدر حبّه لصيد الحيوانات.
وقد أحبّته فينوس إلهة الحبّ والجمال وأصبحت متيّمة به بعد سهم أطلقه عليها ابنها كيوبيد. وفي محاولة للفت إعجابه، بدأت ترتدي ثياب ديانا إلهة الصيد. كان أدونيس أحبّ إليها من أيّ شيء آخر. في ما مضى، كان كلّ همّها الاستلقاء تحت ظلال الأشجار أو إظهار جمالها وفتنتها. وهي الآن ترافقه أينما ذهب مع كلابها وأرانبها وأيائلها وتتنزّه معه في الغابات والتلال وعلى ضفاف الأنهار.
لكن فينوس كانت تتجنّب الذئاب والدببة وتحذّر أدونيس من مواجهة الحيوانات الخطيرة بقولها: كن شجاعا مع الجبان، لكن لا تهاجم السباع التي وهبتها الطبيعة سلاحا. واحذر أن تُظهر شجاعتك مع الحيوانات القويّة فتعرّض حياتك، ومعها سعادتي، للخطر. شبابك وجمالك ليس لهما تأثير على قلوب الأسود والنمور. فقط فكّر في مخالبها القويّة. ولا تصطد كلّ ما هو ناعم ورقيق الملمس".
غير أن أدونيس كان من النبل وحبّ المغامرة بحيث لم يستمع لنصائحها. وفي احد الأيّام، هاجمت كلابه خنزيرا برّيّا في مخبئه. وعندما رأى أدونيس ما حدث، تصدّى للخنزير الهائج وطعنه برمح وجرحه. لكن الخنزير انتزع الرمح بأنيابه ثم اندفع وراء أدونيس ونهشه بشراسة، ثم سحبه على الأرض وتركه ينزف حتى الموت.
سمعت فينوس أنين حبيبها المحتضر وهي في عربتها السماوية، ثم رأت من بعيد على الأرض جثّته الساكنة والغارقة في الدم. كان أثر موته عليها رهيبا، فضربت صدرها ومزّقت شعرها وبكته بألم. ثم خلّدت قصّة حبّها له بتحويل دمه إلى زهرة حمراء بلون الدم.
وروبنز في اللوحة يصوّر اللحظة التي تحاول فيها فينوس، وبمساعدة ابنها كيوبيد، عبثا إقناع عشيقها القابل للفناء بالعدول عن قراره بالذهاب لرحلة الصيد لأنهما يعلمان عن مصيره مسبقا وأنه سيتعرّض للأذى.
هذه اللوحة تمثّل الأسلوب المغري الذي تبنّاه روبنز بعد مكوثه الطويل نسبيّا في ايطاليا. وقد رسمها بالقرب من نهاية حياته. وكان وقتها يعاني من آلام المفاصل المزمن. اللون الأحمر اللامع والمبهج فيها يذكّر بكلام الرسّام الايطالي غويدو ريني الذي وصف روبنز ذات مرّة بأنه "الرجل الذي يمزج ألوانه بالدم".
في عصر الباروك، كان يُطلب من الرسّامين عادة أن يرسموا صورا انفعالية ومثيرة تعلن عن تفوّق الكنيسة الكاثوليكية كردّ فعل على ظهور المصلح الديني مارتن لوثر. وكان لوثر قد أسّس آنذاك المذهب البروتستانتي متحدّيا سلطة الكنيسة الكاثوليكية. غير أن هذه اللوحة تتناول موضوعا مختلفا عمّا كان سائدا في تلك الأيّام. وقد كلّف روبنز برسمها الامبراطور جوزيف الأوّل الذي قدّمها بدوره هديّة إلى دوق مارلبورو الانجليزي.
أسطورة فينوس وأدونيس كانت موضوعا مفضّلا في فنّ وأدب عصري النهضة والباروك. ومن أشهر من رسمها بالإضافة إلى روبنز كلّ من تيشيان وفيرونيزي. كما كتب شكسبير قصيدة من وحي القصّة.
ومن الواضح أن روبنز استلهم هذه اللوحة من تيشيان الذي رسم الموضوع في لوحة كان روبنز قد رآها في متحف برادو الاسباني ثم قام باستنساخها عام 1628. وكان تيشيان قد رسم نسختين من لوحته تلك، توجد إحداهما في المتروبوليتان بنيويورك والأخرى في متحف برادو بمدريد.
روبنز كان معجبا بالفنّ القديم. ورغم ذلك فإن شخوص لوحاته واقعيون ومملوءون بالحياة، خاصّة نساءه العاريات اللاتي يبدين اقلّ صرامة وأكثر حسّية. وقد شاع في ما بعد مصطلح الفنّ الروبنزي ليصف رسوماته التي تصوّر نساء بدينات وذوات خصور واسعة ومثيرة.
كان روبنز يدير ورشة رسم كبيرة. وكان من بين مساعديه كلّ من مواطنيه يان بريغل وانطوني فان ايك. كان من عادته أن يرسم الاسكتش الأوّلي للوحة، ثم يعهد به إلى مساعديه، قبل أن يباشر هو وضع اللمسات الأخيرة على العمل. وفكرة أن يتولّى الفنان لوحده رسم اللوحة بالكامل هي فكرة حديثة نسبيّا ولم تكن موجودة زمن روبنز.

Tuesday, September 02, 2014

لوحات عالميـة – 353

مـدام شاربـونتيـيه وطفـلاها
للفنان الفرنسي بييـر رينـوار، 1878

رسم رينوار خلال حياته آلاف اللوحات الجميلة والدافئة. وأصبح بعضها من أشهر الأعمال الفنّية وأكثرها استنساخا في تاريخ الرسم.
كان يبني تفاصيل مناظره من خلال ألوان ولمسات فرشاة حرّة. ولهذا السبب يمتزج شخوصه ويذوبون واحدهم بالآخر وبكلّ ما يحيط بهم.
لوحات رينوار تُظهر تأثّره بلمعان وحيوية ألوان اوجين ديلاكروا وكميل كورو. كما كان أيضا معجبا بواقعية غوستاف كوربيه وإدوار مانيه. وأعماله المبكّرة تشبه أعمالهم من حيث استخدامه للأسود كلون. وكان أيضا مفتونا بالإحساس بالحركة الذي كان يراه في لوحات ادغار ديغا. وهناك رسّام آخر تأثّر به رينوار هو فنّان القرن الثامن عشر فرانسوا بوشيه.
ولأن رينوار كان شخصا يحتفي بالجمال، كانت الأنثى العارية احد مواضيعه الأساسية. ولذا قيل انه كان الممثّل الأخير لاتجاه في الرسم بدأه روبنز وكرّسه واتو.
في العام 1879، وكان رينوار قد أصاب نجاحا وأصبح يرسم الأغنياء والوجهاء، قرّر أن يرسم بورتريها اجتماعيا ضخما. والنتيجة هي هذا البورتريه الموجود اليوم في متحف المتروبوليتان في نيويورك. وفيه يصوّر رينوار مدام مارغريت شاربونتييه التي كانت سيّدة مجتمع باريسية معروفة. كانت هذه المرأة تتمتّع بنفوذ كبير في مجتمع البورجوازية الجديدة، جنبا إلى جنب مع زوجها الذي كان أهمّ ناشر في باريس حينها. أمّا والدها فكان احد اكبر تجّار المجوهرات في فرنسا.
إميل زولا وفلوبير ومالارميه والأخوان غونكور، أي مجموعة الأدباء الفرنسيين الأشهر في فرنسا آنذاك، كانوا جزءا من هذه الدائرة.
وكان لعائلة شاربونتييه منزل فخم في باريس يضمّ عددا من القطع الفنّية ويستقبل الشخصيات الاجتماعية المهمّة، بمن فيهم رينوار نفسه.
كان في بيتهم غرف بديكورات غريبة. وهذه الغرفة التي في الصورة كانت إحداها. كان اسمها الغرفة الشرقية وكانت تضمّ ديكورات وزخارف شرق أوسطية وصينية.
في اللوحة نرى السيّدة شاربونتييه مرتدية فستانا أنيقا، وإلى جوارها ابنها بول ذو الثلاث سنوات الذي يبدو بشعر طويل، بالإضافة إلى ابنتها جورجيت التي تداعب كلب الأسرة.
رينوار قال في ما بعد إن مدام شاربونتييه تذكّره بمن أحبّهن في فترة شبابه وبموديلات فراغونار. "جلست المرأة وطفلاها أمامي طواعية لوقت طويل وبلا مشاكل".
عائلة شاربونتييه كانت دائما تساعد رينوار وقت حاجته. وبالمقابل رسم هو بورتريهات لأفرادها. لكن هذه هي انجح تلك اللوحات بلا منازع. وقد رسمها بناءً على تكليف من السيّدة. كان في ذهن رينوار أن يرسم صورة قريبة من الذوق التقليدي. وعلى ما يبدو، لم يكن هناك أفضل من هذه اللوحة. وعند إتمامها قُدّمت إلى الصالون عام 1879. وقد استغلّت السيّدة نفوذها كي تُعلّق في مكان بارز من الصالون. وبسبب مكانتها الاجتماعية، حقّقت اللوحة نجاحا كبيرا.
لكن لنعد إلى اللوحة قليلا. لاحظ أن كلّ تفاصيل الديكور رُسمت بطريقة ساحرة وجميلة، مع بقع زاهية من المخمل والحرير والفراء والسجّاد والمعدن والبورسلين والأزهار. كل شيء يدلّ على أن هذا المكان مختلف وباذخ. ثم لاحظ حميمية التوليف والألوان المشبعة والضوء المفعم بالحياة، وهي سمات يمكن أن نراها في جميع أعمال رينوار بلا استثناء.
في السنوات الأولى من القرن العشرين، عانى رينوار من التعب والإعاقة في يديه بسبب تأثيرات الروماتيزم. وقد اعتكف في بيته في جنوب فرنسا وأصبح الرسم بالنسبة له مؤلما وأحيانا مستحيلا. كان أحيانا يضطرّ لربط الفرشاة في يده المشلولة. ومع ذلك استمرّ يرسم حتى وفاته في ديسمبر عام 1919.
لكن قبيل وفاته، كانت الحكومة الفرنسية قد اشترت بورتريه مدام شاربونتييه. وقد سافر رينوار إلى باريس كي يرى اللوحة معلّقة في اللوفر. وكان ذلك بمثابة تكريم له من الدولة. وفي مرحلة لاحقة، ابتاع متحف المتروبوليتان في نيويورك هذه اللوحة بثمانين ألف فرنك فرنسي.

موضوع ذو صلة: رينوار.. الأعوام الأخيرة

Thursday, August 21, 2014

لوحات عالميـة – 352

لا سيـوتا، ساحـل المتوسّـط
للفنان الفرنسي نيكـولا دو ستـال، 1952

ولد نيكولا دو ستال عام 1914 في سانت بطرسبورغ بروسيا لعائلة من العسكر وكبار البيروقراطيين. والده هو الجنرال فلاديمير فون هولستين الذي كان بارونا يعمل في خدمة القيصر نيكولا الثاني. أمّا أمّه فتنتمي إلى عائلة مثقّفة وتمُتّ بصلة قرابة للمؤلّف الموسيقيّ الروسي الكسندر غلازونوف.
بعد اندلاع ثورة 1917، اضطرّت عائلة الرسّام لمغادرة روسيا، وذهبت في البداية إلى بولندا. وبعد خمس سنوات توفّي والداه فأصبح يتيما وهو ما يزال في سنّ التاسعة. وقد وُضع هو وشقيقاته في عهدة عائلة روسية في بروكسل. وفي بلجيكا تمكّنوا من تأسيس حياة مريحة نسبيّا.
وفي تلك الأثناء أبدى نيكولا رغبته في أن يصبح رسّاما، على الرغم من اعتراض عائلته. وقد سجّل عام 1933 في أكاديمية الفنون الجميلة في بروكسل كطالب في الرسم. وفي سبتمبر من عام 1954، غادر ومن بقي من عائلته بلجيكا إلى فرنسا.
وفي باريس أسّس له محترفا على بعد أمتار من استوديو الرسّام جورج براك الذي أصبح واحدا من اقرب أصدقائه. كما تعرّف على موسيقيين وشعراء ورسّامين مشهورين من أمثال جان آرب وسونيا ديلوناي.
وكانت معالم باريس من بين أوّل ما رسمه دو ستال في بداياته. كان يملأ جيوبه بأنابيب الطلاء ويحمل رقعة الرسم ويتمشّى على ضفاف السين. ثم يعود وقد رسم طبيعة بطلاء سميك من الألوان الزرقاء والبنّية والخضراء الشاحبة مع أفق منخفض وسماوات واسعة.
في عام 1937، زار الجزائر، ثمّ قضى بعض الوقت في المغرب التي قابل فيها الرسّامة جان غيلو والتي أصبحت في ما بعد زوجته. وقد رُزقا بطفل، لكن لم تلبث الزوجة أن توفّيت عام 1946 ليترك رحيلها في نفسه فراغا كبيرا.
وفي السنوات التالية ذهب إلى اسبانيا. وأينما حلّ، كان يزور المتاحف ويتأمّل أعمال كبار الرسّامين. غير أن هذه الرحلات زوّدته بمصدر إلهام إضافي ومهم تمثّل في أراضي الجنوب المشبعة بضوء الشمس.
وبحلول بداية الخمسينات، كان دو ستال قد أصبح رسّاما عالميّا مشهورا بعد أن عرض أعماله في باريس وبرلين وكوبنهاغن وغيرها. كما حقّق نجاحا كبيرا في نيويورك ولندن اللتين عرض فيهما بعضا من لوحاته وباع البعض الآخر. كان الطلب على رسوماته كبيرا جدّا لدرجة أن متعهّد أعماله الأمريكي رفع أسعار لوحاته وطلب المزيد منها.
في هذه اللوحة، يرسم دو ستال منظرا تجريديا لطبيعة فرنسية من لا سيوتا، وهي بلدة سياحية تقع في جنوب فرنسا على ساحل المتوسّط أتى على ذكرها الشاعر الرومانسي لامارتين في إحدى قصائده.
دو ستال قسم اللوحة إلى عدد من القطاعات اللونية، الزرقاء والحمراء والبيضاء والسوداء، والمقشورة بطريقة جميلة. ومن الواضح انه تعامل مع سطح الصورة بمثل ما يتعامل النحّات، فوضع طبقات ثقيلة من اللون بعضها فوق بعض باستخدام سكّين. وفي اللوحة، كما في غيرها، يمكنك رؤية أثر ضربات الفرشاة والسكّين بوضوح.
استمرّ دو ستال يرسم لمدّة خمسة عشر عاما ابتداءً من عام 1940م، وأنتج خلال تلك الفترة حوالي ألف لوحة. وأعماله تشي بتأثّره بسيزان وبيكاسو وماتيس وكوربيه ورمبراندت وفيرمير وغيرهم.
ورغم أنه كان يُعتبر دائما رسّاما تجريديا، إلا انه أحيانا ما رسم أشخاصا. وكثيرا ما تهيمن على رسوماته تأثيرات السماء والضوء والظلّ.
وفي نهايات حياته، طرأ بعض التغيير على أسلوبه. فالألوان لم تعد مشبعة بل صار يكتنفها قدر من الضبابية، والطلاء أصبح سميكا ورقعة الرسم مبقّعة وليست مغطّاة بالألوان بالكامل. كما أصبح يوظّف كرات من القطن كي يعزّز حركة الطلاء.
كان من عادة دو ستال أن يعمل بلا طعام أو نوم لعدّة أيّام. وبعد منتصف إحدى ليالي مارس من عام 1955، وكان ما يزال يعمل بمحترفه، شعر بشحوب الضوء وبأن من المتعذّر عليه أن يعمل لفترة أطول. ثم نهض من كرسيّه وابتعد عن اللوحة التي لم تكتمل بعد وأمسك بورقة كتب عليها ثلاثة أحرف. ثم قام بإحراق جميع اسكتشات لوحاته المستقبلية.
ومن نافذة الاستديو الواقع في الدور الحادي عشر من إحدى البنايات في آنتيب، نظر إلى الخارج للمرّة الأخيرة ثم قفز إلى بحر الشارع. وفي وقت متأخّر من تلك الليلة، عثرت امرأة كانت تماشي كلبها على جثّته المشوّهة. وتبيّن انه قُتل في الحال. كان عمره وقتها لا يتجاوز الحادية والأربعين.
كان دو ستال قد عاش قبل ذلك فترة من التعب والإرهاق والاكتئاب. وقيل انه اتخذ قراره بإنهاء حياته بعد لقاء عاصف مع احد النقّاد المشاكسين الذي أهانه وحطّ من قدره. وهذا هو التفسير الذي أصبح مقبولا ومتداولا في ما بعد.
ما من شكّ في أن نيكولا دو ستال كان رسّاما ناجحا تجاريّا ونقديّا، وكان الطلب على لوحاته كبيرا. وقد عانى كثيرا في حياته الشخصية، حيث ذاق مرارة المنفى وفقدان الوالدين وهو في سنّ مبكرة، ثم فُجع بفقد زوجته. وكانت هذه الصدمات كبيرة جدّا بحيث لم يستطع تحمّلها.
ولا تزال لوحاته مطلوبة كثيرا هذه الأيّام وربّما أكثر من أيّ وقت مضى. وقد بيعت إحداها في المزاد بفرنسا قبل ثلاث سنوات بمبلغ سبعة ملايين يورو.

Friday, August 15, 2014

لوحات عالميـة – 351

يقظـة ضميـر
للفنان البريطاني وليام هولمان هانت، 1853

لو نظرت إلى هذه اللوحة في سياق زمننا الحاضر أو بمعايير الرسم السائدة لضحكت من سذاجة موضوعها، رغم أن هذا كان يُعتبر موضوعا جريئا في منتصف القرن التاسع عشر.
كانت المرأة الخاطئة موضوعا مفضّلا في الفنّ الفيكتوري. وكان الرسّامون من تلك الفترة متحمسّين لرسم هذه الفكرة. في ذلك الوقت كانت الدعارة متفشّية في المجتمع الانجليزي. عبارة "الشرّ الأخلاقي" كانت أيضا رائجة وقتها، وهي تشير إلى المرأة التي تدخل في علاقة خارج الزواج.
وكان الناس آنذاك يؤمنون بحكمة تقول إن المرأة متى سقطت فإنها تنحرف إلى البغاء، ثم المرض، فالموت غرقا غالبا. وكثيرة هي اللوحات من تلك الفترة التي تتضمّن رسائل تحذّر من تجاوز الخطوط الأخلاقية المتعارف عليها.
ولم يكن هناك تمييز بين امرأة وأخرى. فالجميع مذنبات بلا استثناء. حتى المرأة التي تعمل خادمة في بيت رجل يمكن أن تكون زانية. وكان الناس وقتها يعتقدون بأن مجرّد الحديث عن هذا الموضوع يُعدّ أمرا معيبا.
لكن بالنسبة للرسّامين ما قبل الرافائيليين، كان هذا موضوعا مفضّلا بسبب تأثير الكنيسة عليهم وقانون الأمر بالعفّة. الرسّام وليام هانت كان ضدّ أن تُختصّ المرأة لوحدها باللوم على انحرافها. كان يعتبر ذلك ازدواجا في المعايير. بل كان يؤمن بأن المسئولية الأعظم في انحراف المرأة تقع على كاهل الرجل نفسه.
في اللوحة يرسم هانت رجلا وامرأة داخل غرفة. المرأة التي ترتدي فستانا ابيض طويلا موشّى بالحرير في أسفله تترك حضن الرجل فجأة. عيناها الواسعتان تنظران بعيدا خارج فراغ الإطار. أما الرجل فيلبس سترة غامقة ويستند على كرسي بينما يطوّق بذراعه المرأة الواقفة. انه ينظر إليها باستغراب وهي لا تردّ على نظراته.
الأثاث في الغرفة باذخ. وهي تحتوي على زخارف كثيرة على الجدار وعلى السجّاد الأحمر. وهناك أيضا بيانو وبجواره نوتة موسيقية، ومرآة ضخمة تملأ الجزء الأيسر من اللوحة وينعكس عليها جانب من شخص المرأة من الخلف.
من الواضح أن كلّ احتياجات المرأة المادّية في البيت وفّرها الرجل. وهما يجلسان معا ويعزفان على البيانو ذات ظهيرة جميلة. النوتة الموسيقية على البيانو هي لأغنية بعنوان "في سكون الليل". كانت هذه الأغنية مشهورة في ذلك الحين. وكلماتها تتحدّث عن الفرص الضائعة والذكريات الحزينة عن ماض أكثر سعادة.
ويبدو أن الأغنية التي يعزفها الرجل حرّكت وترا حسّاسا داخل المرأة وأثارت بعض مواجعها. إنها تهبّ واقفة وتحدّق عبر النافذة، وعلى وجهها آثار الإحساس بالذنب. الرجل لا يرى وجهها ولا يلاحظ التحوّل الذي طرأ عليها، لذا هو مستمرّ بالغناء وبضرب المفاتيح بلا اهتمام.
الرسّام يريدنا أن نعرف أن المرأة في اللوحة هي خليلة الرجل، أي انه يستخدمها فقط وليس في نيّته الزواج منها. كما أنها تعتمد عليه بالكامل. وعندما يهجرها، وهو ما يحصل في معظم الأحيان، فإنها تنتهي إلى الإدمان والدعارة.
لكن يبدو أن "طيفا مقدّسا ما" ظهر لهذه المرأة على غير انتظار، ويُفترض انه سيغيّر حياتها وظروفها ويساعدها على أن تعيش حياة صلاح وتقوى.
بعض النقّاد وصفوا اللوحة بأنها قبيحة وغير مفهومة. ومع ذلك يمكن القول أنها صورة سردية بامتياز، أي أنها تحكي قصّة. كما أن تفاصيلها كثيرة وألوانها متوتّرة وتوليفها معقّد إلى حدّ ما. وبالإضافة إلى هذا، فهي مليئة بالرموز والإشارات. إلى الأسفل، مثلا، نرى قطّة تقبع تحت الطاولة وهي تعابث طائرا، في إشارة إلى أن الرجل يعبث هو أيضا بالمرأة. وعلى الجدار العلويّ إلى اليمين لوحة تصوّر القصّة الدينية التي تحكي عن نساء ينحرفن نحو البغاء.
الموديل في اللوحة هي آني ميللر رفيقة الرسّام. وقد التقطها من احد الأحياء الفقيرة وجلبها لكي تعمل في بيته. ثم لم يلبث أن عرض عليها الزواج وأن تترك حياتها الماضية لكي تعيش معه بكرامة، ولكنها لم تعمل بنصيحته. وعندما أراد الحجّ إلى فلسطين تركها في عهدة احد زملائه مع تعليمات مشدّدة منه بأن يحافظ عليها وأن لا يستغلّها.
كان وليام هانت إنسانا متديّنا جدّا. ولذا كان تركيزه دائما على رسم المواضيع الأخلاقية. وبعد أن أتمّ رسم هذه اللوحة، ذهب إلى فلسطين حاجّا ومتأمّلا. كان يؤمن بأن الفنّان إن أراد رسم مواضيع دينية عليه أن يذهب إلى مصدر الإلهام، رغم أن الرحلة إلى القدس في تلك الأيّام كانت خطيرة ومكلّفة وصعبة.

Tuesday, August 12, 2014

لوحات عالميـة – 350

بورتـريه الـدوق ليونـاردو لوريـدان
للفنان الايطالي جيوفـاني بيلليـني، 1502

يقال إن هذا البورتريه هو واحد من أعظم الصور الشخصيّة في تاريخ الفنّ الغربي. وقد رسمه رجل يعتبره مؤرّخو الفنّ أشهر أفراد عائلة كانوا جميعا من الرسّامين الكبار.
أما الشخص المرسوم هنا فهو الدوق ليوناردو لوريدان. لم يكن هذا الرجل ملكا ولا امبراطورا. لكنه كان اقلّ بقليل من حاكم مطلق. وأنت تشعر بهذا من الطريقة التي رُسم بها.
جيوفاني بيلليني رسمه في نفس السنة التي تولّى فيها منصبه كحاكم لفينيسيا، وهو المنصب الذي سيشغله طوال العشرين عاما التالية والتي اتسمت بالصراع المتواصل بين الجمهورية وأعدائها الكثر.
في اللوحة، يبدو الدوق بعينين فولاذيّتين، تماما كما كان ذات مرّة يهيمن على مقاليد الأمور الشائكة والخطيرة في فينيسيا في مطلع القرن السادس عشر.
والحقيقة انك كلّما نظرت إلى صورة هذا الرجل، بنظراته النافذة وقبّعته المشدودة على رأسه بإحكام وردائه المطرّز بطريقة فخمة، كلّما خمّنت أن لديه المزيد ممّا يريد أن يقوله.
الوجه نحيل والملامح حذرة ومتقشّفة. ومن الواضح أننا أمام رجل خبير بالدبلوماسية والتكتيك، وزعيم روحاني ولكن بقبضة حديدية.
المدهش أن بيلليني لم يرسم البورتريه جانبيّا، لكن وجها لوجه مع انحراف بسيط. وهذا الأسلوب في رسم اللوحات كان مقتصرا على الصور المقدّسة في العصور الوسطى. رداء الدوق مصنوع من الحرير المقصّب بالذهب. وعلى ما يبدو، كان هذا هو اللباس التقليديّ لشاغلي المناصب الرسمية آنذاك.
كان من عادة بيلليني أن يرسم بورتريهات الأشخاص المهمّين بأسلوب فخم ما أمكن. وهو هنا أراد أن يذكّر الناظر بحقيقة أن الدوق لوريدان كان رجلا بين مجموعة من الرجال، وقد انتخبته لجنة من أربعين ارستقراطيا.
والدوق لم يكسب سوى القليل مقابل أدائه لواجباته الرسمية، ولم يكن مسموحا له أن يحابي أو يفضّل أيّا من أفراد عائلته أو أقاربه الذين لم يكن يحقّ لهم امتلاك أراض خارج حدود فينيسيا. ومع ذلك كانت وظائفه الشرفية غير عاديّة. ولهذا رسمه الفنّان بهذه الطريقة الفخمة نوعا ما.
ولد الدوق ليوناردو لوريدان عام 1436. وإحدى المشاكل التي واجهته في بداية حكمه كانت هزم الأسطول البرتغالي للأسطول العثماني المملوكي. وكان من نتائج تلك المعركة أن خسرت فينيسيا تجارة التوابل المربحة التي كانت تحتكر بيعها في أوربّا وتجني من ورائها أرباحا طائلة.
ووجدت فينيسيا نفسها فجأة مهدّدة من قبل رابطة كامبري، فباشر لوريدان توحيد الناس ودعا لأن يحتشدوا ويبدوا استعدادهم للتضحية. وقد تمكّن في النهاية من استعادة جميع الأراضي التي كان قد استولى عليها البابا المتحالف مع الفرنسيين.
هذه اللوحة لا شي فيها يمكن أن يصرف النظر عن الدوق نفسه. وكما هو الحال في الحياة الواقعية، كان الدوق هو المواطن الأوّل في فينيسيا في عصره.
واختيار الرسّام لخلفية زرقاء خفيفة هو جزء من نجاح هذه اللوحة. والخلفية تتضمّن كمّا وفيرا من الالترامارين، وهو نوع من الأصباغ المشتقّة من اللازورد الذي يُسمّى أحيانا "اللابيس لازول". كانت هذه المادّة الصبغية أغلى من الذهب في بعض الأحيان، وكانت تُشحن إلى أوربّا من آسيا عبر فينيسيا.
ولا بدّ وأن الدوق تسامح مع إنفاق جزء من ثروته على هذه اللوحة التي تبدو، ظاهريّا، بعيدة عن المفاخرة أو التشاوف. هذه الخلفية اللازوردية لا تخلق تباينا جميلا مع الألوان الذهبية فحسب، بل تستدعي أيضا سمعة فينيسيا كقوّة تجارية بحرية يُحسب لها ألف حساب.
ومن الملاحظ أن اللوحة ليست بكامل طولها، وإنّما قُطعت من منتصفها، مع أن الدوق لم يكن بأيّ حال شخصا قصير القامة. لكن يبدو أن أسلوب الرأس والجذع مستمدّ من التماثيل النصفية الرومانية. ويقال إن عائلة لوريـدان كانت تعتقد أنها من سلالة بطل رومانيّ قديم. كأن الدوق ليوناردو نفسه يقول: أنا أيضا بطل، خادم للربّ وقائد للناس.
وإجمالا يمكن القول أن هذا البورتريه عبارة عن متاهة معقّدة من الأنسجة والأنماط. وقد وظّف الفنّان في رسم الثياب تقنية الطلاء الكثيف "أو الامباستو" كي يخلق إحساسا بتأثير الأبعاد الثلاثية. خيوط الذهب والفضّة على الرداء لا تعكس الضوء فحسب، وإنّما أيضا ثروة فينيسيا والأمل بأن تستمرّ المدينة في طريق الرخاء والرفاهية. وعلى كلّ، كان لوريدان نفسه معروفا بأناقته وحسن اختياره للملابس.
كان جيوفاني بيلليني احد أكثر رسّامي عصر النهضة الايطالي أهمّية ونفوذا. وقد عاش حياة طويلة وتمكّن من تحويل فينيسيا إلى مركز للفنون ينافس كلا من روما وفلورنسا كمركزين مهمّين ومشهورين. كان بيلليني حاضرا في عمق الحياة السياسية والثقافية في فينيسيا طوال حياته وحتى وفاته في عام 1516 عن 86 عاما.
ولد في فينيسيا حوالي عام 1430. والده جاكوبو بيلليني كان، هو الآخر، رسّاما. وقد تدرّب جيوفاني وشقيقة الأخر جنتيلي على يد والدهما. وقُدّر لجنتيلي أن يسافر في ما بعد إلى البلاط العثماني حيث رسم بورتريها مشهورا للسلطان محمّد الفاتح.
رسم بيلليني لوحات تعبّدية وأسطورية، وأظهر مهارة في استيعاب العديد من الأساليب والتأثيرات الفنّية. كما كان بارعا على وجه الخصوص في رسم الوجوه، مع إشارات إلى نوعية الانفعالات وبما يكفي لإيصال أفكار معيّنة عن الشخص إلى المتلقّي.
النظرة الفولاذية التي تحدّث عنها بعض النقّاد رُسمت في هذا البورتريه عمدا على ما يبدو. وقد يكون فيها إشارة إلى أن الدوق يهدف لأن يكون زعيما قويّا وحكيما لفينيسيا.
التعبيرات على الجانب الأيمن المضاء من وجهه أكثر حدّة، بينما الجانب الأيسر الذي في الظلّ يبدو أكثر خيريةً. ابتسامة الدوق الخفيفة على هذا الجانب تبدو عطوفة إلى حدّ ما وقد تكون تعبيرا عن تطلّعه لأن يصبح موضع ثقة الناس وأن يتمتّع بحبّهم وتقديرهم. لكن الجانب الآخر من وجهه الذي في الظلّ يوحي بأنه من النوع الذي ينبغي اتقاء شرّه وتجنّب غضبه.

موضوع ذو صلة: رحلة بيلليني إلى الشرق

Saturday, August 02, 2014

لوحات عالميـة – 349

نـداء الليـل
للفنان البلجيكي بـول ديلفـو، 1938

أنتجت الحركة السوريالية العديد من الرسّامين. وكلّ منهم كان له أسلوبه المختلف ولغته الخاصّة به. وكان هؤلاء غالبا ما يركّزون على محاولة فهم الطبيعة المعقّدة للجنس، وكثيرا ما كانت أعمالهم تُقرأ قراءة سيكولوجية.
ماكس إرنست، مثلا، رسم صورة مزعجة لرجل وامرأة في اتحاد جنسي بينما تبدو أيديهما مبتورة. وكان إرنست متأثّرا على ما يبدو بتحليل فرويد لتهويمات شخص مصاب بالبارانويا والفصام.
بول ديلفو اشتهر هو أيضا بلوحاته السوريالية عن نساء عاريات. والحقيقة انك عندما ترى لوحة من لوحات هذا الرسّام فإنه من الصعب عليك أن تنساها. ففيها ذلك المزاج الحالم والجوّ الجذّاب والمنوّم. وهذه اللوحة هي واحدة من أعماله المبكّرة التي تعكس أسلوبه الخاص والمتفرّد.
ومع أن ديلفو لم يكن يقبل أن يُصنّف ضمن السورياليين ولا ضمن أيّة مدرسة فنّية أخرى، إلا أن هذه اللوحة تُعتبر سوريالية بامتياز. وفيها يظهر تأثّره برينيه ماغريت؛ الرسّام الذي كان ديلفو يقدّره كثيرا.
وفي اللوحة نرى معمارا يونانيّا رومانيّا يتحرّك ضمنه عدد من النساء العاريات والمرتعبات اللاتي يبكين على كارثة غير واضحة. فينوس النائمة تبدو هي الأخرى عارية وغارقة في حلم وسط هذا المنظر الكلاسيكي الغريب. وإلى اليسار نرى امرأة أخرى، لكن مغطّاة بالكامل، وهي تتحدّث إلى هيكل عظمي.
ويبدو أن الرسّام اخذ التأثيرات الرومانية اليونانية من فرويد. ولا يُستبعد أن حبّ فرويد للكتب الكلاسيكية انتقل إلى ديلفو. وكان فرويد قد استعار عددا من الصور اليونانية والرومانية الكلاسيكية ومزجها بنظريّته عن التحليل النفسي.
لكن من ناحية أخرى، قد تكون اللوحة تمثيلا للجنسانية. والنساء المولولات في الخلفية قد يكنّ مرعوبات من حقيقة أنهنّ عاريات. وهذه فكرية فرويدية صميمة لها أصلها في كتابه "تفسير الأحلام". وقد يكون مبعث رعب النساء افتقادهن لوجود رفقاء من الذكور. والملاحظ أن الصورة تخلو فعلا من وجود رجال، إلا إذا استثنينا، ربّما، الهيكل العظمي.
ديلفو قال في ما بعد انه رسم هذه اللوحة في بروكسل أثناء الاحتلال الألماني النازي للمدينة. "الحالة النفسية في تلك اللحظة كانت استثنائية ومليئة بالدراما والألم. وقد أردت أن اعبّر عن ما أحسّ به من كرب وضيق من خلال تصويري لحال النساء المرتعبات ومقارنة حالتهنّ بهدوء فينوس النائمة".
الهياكل العظمية هي إحدى الثيمات التي تتكرّر في لوحات ديلفو. وتُعتبر رسوماته للهياكل من بين الأقوى في الفنّ الغربي المعاصر.
من الواضح أن بعض السورياليين، ومن ضمنهم هذا الرسّام، كانوا يفكّرون بطريقة شبيهة بما قال به فرويد في نظرياته حتى قبل أن يقرؤوها. وكان هؤلاء يجدون رمزية جنسية في كافّة أشكال الحياة اليومية، تماما مثلما كان فرويد يرى في ظهور السكاكين والبنادق في الأحلام رموزا للجنس.
الفيلسوف البريطاني الراحل جيمس بالارد، الذي كان دائما توّاقا لكلّ ما هو غرائبي وتجريبي، كان معجبا كثيرا بلوحات ديلفو وطبيعته المقفرة. ولهذا السبب حرص على أن يعلّق في مكتبه لوحة لديلفو تظهر فيها امرأتان بوجهين رماديين وهما ترقصان نصف عاريتين مع هيكلين عظميين أمام طبيعة شبحية.
كان ديلفو يحبّ الأماكن المعمارية وواجهات المباني وساحات المدن والحدائق وأحواض الزروع التي تفصل بينها ممرّات. والمفارقة أن هذه الطبيعة ما فوق الواقعية برغم هدوئها وغرائبيّتها غالبا ما تثير إحساسا باللاواقع والإنزعاج.
وقد عُرف عن هذا الرسّام أيضا عشقه للنباتات والتطريز والمشغولات الحريرية. ويمكن أن ترى هذه الأشياء في جميع لوحاته تقريبا.
ولد بول ديلفو لعائلة بورجوازية، وكان والده محاميا مرموقا. وقد درس الرسم أوّلا في أكاديمية بروكسل للفنون الجميلة، على الرغم من اعتراض والديه على أن يصبح رسّاما.
ثم درس الموسيقى وأخذ دروسا في اليونانية واللاتينية واطّلع على روايات جول فيرن وشعر هوميروس. وقد تأثّر بهذه القراءات وحرص على أن يعكسها في كلّ أعماله تقريبا. ديلفو قد لا يكون رسّاما عظيما أو مهمّا جدّا، لكنّه مع ذلك محيّر ومثير للاهتمام. ويمكن وصف لوحاته إجمالا بأنها صور مثيرة للمدنية الحديثة ولكن بتعبيرات مستمدّة من الأساطير القديمة.
الجدير بالذكر أنه استمرّ يرسم حتى بلوغه الثمانين. وبحلول عام 1988 كان قد فقد بصره نهائيا تقريبا. وكثيرا ما كان يشاهَد وهو يمشي منحني الظهر ومتّكئا على عكّاز، لكنه ظلّ محتفظا بكامل وعيه إلى حين وفاته في يوليو من عام 1994 عن 97 عاما.

Wednesday, July 09, 2014

لوحات عالميـة – 348

خلـق العالـم والطـرد من الجنّـة
للفنان الايطالي جيـوفانـي دي بـاولـو، 1445

كان جيوفاني دي باولو واحدا من أهم الرسّامين الايطاليين في القرن الخامس عشر. وتتميّز رسوماته بالألوان الباردة والأشكال الطويلة. ورغم أن الكثير من أعماله ذات صبغة دينية، إلا انه كان بارعا أيضا في رسم وزخرفة المخطوطات. وقد كُلّف برسم أكثر من 60 منمنمة مزخرفة بالذهب كي تزيّن الطبعة الخاصّة بمكتبة ملك نابولي من كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي. ورسوماته تلك تُعتبر من أفضل أعماله المحفوظة حتى اليوم.
ومن أشهر أعمال دي باولو الأخرى هذه اللوحة التي رسمها في كنيسة سان دومينيكو التي أصبحت اليوم تؤوي غاليري اوفيزي المشهور في فلورنسا.
والرسّام في اللوحة يقدمّ رؤية للجنّة تذكّر بوصف دانتي لها في الكوميديا الإلهية. وقد رسم الفنّان الكون على هيئة كرة سماوية، بينما الأرض في المركز تحيط بها سلسلة من الدوائر المتّحدة المركز. هذه الدوائر تمثّل العناصر الأربعة والكواكب المعروفة، بما فيها الشمس بحسب ما كان يقوله علم فلك القرون الوسطى.
في اللوحة نرى خريطة للعالم الذي خُلق للتوّ، وأسفل إلى اليمين جنّة الفردوس بأنهارها الأربعة التي تنبع من الأرض، وآدم وحوّاء وهما يُطردان من الجنّة على يد ملاك يأخذ شكل إنسان عار.
آدم وحوّاء يبدوان عاريين ومفجوعين وهما يُطردان من جنّات عدن. والأزهار المتألّقة والتفّاحات الذهبية والمراعي الخضراء في الجنّة ترمز إلى الحالة النقيّة أو الطاهرة للإنسان قبل سقوطه من العلياء.
من الأشياء المثيرة للاهتمام في هذه اللوحة أن الأرض محاطة بدوائر ملوّنة، وبالتحديد 11 لونا. والرسّام هنا يتبع وصف دانتي لمدارات الأجرام السماوية. فالدائرة الكبيرة وسط هذه الدوائر تمثّل الأرض وهي محاطة ببحار ومحيطات زرقاء. ثم هناك دائرة من نار، وطبقات زرقاء من الهواء، ثم طبقة أخرى تمثّل حركة الكواكب حول الأرض. ويمكن القول إن اللوحة هي عبارة عن تصوير للنظام الشمسي ما قبل غاليليو والذي كان يفترض أن الأرض تقع في مركز الكون.
الإشارة باليد الممدودة باتجاه الدائرة موجّهة للأرض إلى أسفل، أي إلى حيث سيكون مستقرّ آدم وحوّاء وذريّتهما الذين سيأتون في ما بعد.
بعض لوحات جيوفاني دي باولو لها خاصيّة الحلم. وهو كان منجذبا لتقليد أساليب بعض زملائه من الرسّامين. في تلك الفترة، كان هناك عرف يُثمّن عمل كلّ رسّام يستطيع أن يغيّر ويعدّل في أعمال الآخرين بحيث تبدو في النهاية كما لو أنها من أعماله أو من إبداعه هو.
ومن ناحية أخرى، استفاد دي باولو من خبرة وأسلوب زميله ومواطنه الرسّام جنتيلي دي فابريانو. وقد عُرف عن الأخير افتتانه بالطبيعة. وبدلا من استخدام قدّيسين في مثل هذه المناظر كما كان العرف سائدا وقتها، كان دي فابريانو يستخدم في لوحاته زينة من النباتات والأزهار.
ولد جيوفاني دي باولو في جمهورية سيينا الايطالية عام 1403م. وتتلمذ على يد الرسّام تاديو دي بارتولو الذي يظهر تأثيره واضحا في أعمال دي باولو المبكّرة. لكنه أيضا، وكما سبقت الإشارة، تأثّر بالأسلوب الزخرفي وبلوحات البلاط التي كان يرسمها معاصره جنتيلي دي فابريانو.
وقد عُرف عن دي باولو دفاعه القويّ عن أسلوب الرسم القديم الذي كان شائعا في القرون الوسطى، مع أن أسلوبه هو لم يكن الأكثر تفضيلا في زمانه.
ورغم انه لم يتمتّع بأيّ نفوذ يُذكر على مجمل حركة الرسم طوال القرون الأربعة التي تلت وفاته عام 1482م، إلا أن فنّه شهد انتعاشا منذ بداية القرن الماضي بسبب سماته اللونية والشاعرية والدراماتيكية. كما اظهر رسّامو الحداثة اهتماما بالسمات التعبيرية في أعماله التي تتوزّع اليوم على العديد من المتاحف العالمية في فلورنسا ونيويورك وباريس وفيينا ومدريد وأمستردام وغيرها.

Thursday, July 03, 2014

لوحات عالميـة – 347

طيف شخص مع طبق فاكهة على شاطئ
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1938

كان سلفادور دالي رسّاما رائدا وغريب الأطوار. وقد غيّر جذريّا مفهوم السوريالية. وعندما كان شابّا في بداية العشرينات كتب في مفكّرته يقول: قد يحتقرني الناس الآن ويسيئون فهمي. لكنّي سأصبح غدا شخصا عبقريّا وعظيما".
وقد تأثّر دالي بالرسّام جورجيو دي كيريكو وكذلك بواقعية ودقّة الرسّامين ما قبل الرفائيليين وبرسّامي فرنسا القرن التاسع عشر. ثم بدأ المزج بين عدّة أساليب وتقنيات فنّية مختلفة.
في هذه اللوحة، رسم دالي أربعة مشاهد ثم دمجها في صورة واحدة: رأس كلب، ووجه إنسان، ومنظر لصحراء تطلّ على البحر ومائدة عليها طبق من الفاكهة.
لكن لنلقِ أوّلا نظرة على التفاصيل بدءا من الجهة اليسرى. في هذا الجزء من اللوحة نرى امرأة تجلس وهي تعطي ظهرها للناظر بينما تشعل النار في موقد. وإلى جوار المرأة نلمح ثلاثة أشخاص احدهم يعزف على آلة موسيقية، بالإضافة إلى سلّة وقوقعة وماء.
وفي الجهة اليمنى من المنظر يحتشد عدة أشخاص، بينهم أطفال ورجال ونساء، وهم يقفون أمام تمثال ضخم لرجل اسود عار. وفي الوسط طبق فاكهة يشبه كأس النبيذ، وعلى الطاولة أيضا هناك حبل وقطعة قماش وكرات صغيرة. لكن العنصر المهيمن على الصورة هو منظر الكلب الضخم الذي يتمدّد على كامل مساحة اللوحة من اليمين إلى الشمال.
هذه هي العناصر الأوّلية في اللوحة أو ما يمكن أن تراه لأوّل وهلة. لكن بعد برهة ستكتشف أن اللوحة هي عبارة عن نوع من الخداع البصري. فالطاولة هي بنفس الوقت صحراء، والجسر في المنظر الطبيعي يتشكّل من ياقة الكلب، وطبق الفاكهة أو الكمثرى يتحوّل إلى وجه امرأة تتشكّل إحدى عينيها من صدفة والأخرى تأخذ شكل رأس شخص مستلق على الأرض.
وبإمكانك طبعا أن تحدّق في هذه اللوحة إلى ما لا نهاية وتكتشف بنفسك المزيد من الأشكال والتفاصيل والصور المزدوجة أو المتحوّلة.
دالي كان مفتونا بتحوّل الأشياء وعدم ثبات المظاهر. وقد أراد استدعاء عالم اللاوعي من خلال خلق هذا النوع من الصور ذات الطبقات المتعدّدة. لاحظ كيف أن تلاعبه بجزء صغير من تفصيل واحد أنتج تحوّلات وتجانبات مذهلة وغير متوقّعة. حتى ثمار الكمثرى تنبثق منها وجوه وملامح لأشخاص. وأيضا وكما في الحلم، هناك أشياء لا يمكن توقّعها مثل الحبل وقطعة القماش المرميتين بإهمال على الطاولة.
في معظم الصور من الماضي، كان كلّ شكل وكلّ لون يشير إلى شيء واحد فقط . في الطبيعة مثلا، كانت الضربات البنّية للفرشاة تنتج جذوع أشجار بينما يتولّد عن النقاط الخضراء أوراق شجر.. وهكذا.
وصورة دالي هذه تجسّد حقيقة أن فنّاني القرن العشرين، خاصّة السورياليين، لم يكونوا يقنعون بتصوير ما يرونه فقط، بل أرادوا أيضا توظيف الألوان والأشكال وحشدها معا لبناء صور متخيّلة.
وفكرة الرسّام هنا تتلخّص في أن كلّ شيء يمكن أن يمثّل عدّة أشياء معا في نفس الوقت، ما يدفع المتلقّي للتركيز على المعاني الممكنة والمتعدّدة لكلّ شكل ولون، تماما مثلما يركّز دارس اللغة على الوظائف المتعدّدة للكلمات والمعاني.
سيغموند فرويد كان الشخص الذي كان دالي يحترمه ويقدّره كثيرا في شبابه. وقد اعتبر فرويد أن 90 بالمائة من السورياليين مجانين. ورغم انه قابل دالي عام 1938، إلا أنه لم يقل شيئا عن ذلك اللقاء.
ومع ذلك يمكن اعتبار لوحات دالي، بشكل عام، جزءا لا يتجزّأ من سيرته الذاتية. وعالمه الداخلي وشطحاته وغرابة أطواره يمكن اكتشافها في تعبيراته الصورية التي كان يضمّنها بعضا من أحلامه وهلوساته، أو ما كان يسمّيه هو بالبارانويا النقدية.
وبعض من أرّخوا لحياة دالي وفنّه توقّفوا عند تاريخ عائلته في محاولة لتحليل شخصيّته. والده، واسمه سلفادور أيضا، كان رجلا محترما وصارما بنفس الوقت. وكان دالي يخافه طوال عمره ولم يجرؤ على معارضته إلا بعد أن ظهرت زوجته وملهمته غالا في حياته.
وأسلاف دالي كان يعيشون في شمال كاتالونيا، وهي منطقة في اسبانيا تتّصف برياحها العاصفة ومناخها البارد. ويُعتقد أن ذلك الطقس مسئول، ولو بنسبة ما، عن السلوك العصبي والغريب لبعض الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة وعن كثرة حوادث الانتحار هناك.
المعروف أن سلفادور دالي بدأ عرض لوحاته في مدريد وهو شابّ. كان وقتها احد ابرز الرسّامين الواعدين. ثم زار باريس والتقى بيكاسو وميرو وإرنست وآخرين. وسرعان ما أصبح احد الأشخاص الروّاد في الحركة السوريالية.

Thursday, June 12, 2014

لوحات عالميـة – 346

أزهـار هيليـوغـابـالـوس
للفنان البريطاني لورنـس المـا تـاديمـا، 1888

هذه اللوحة هي ولا شكّ أشهر لوحات لورنس الما تاديما. وهي تحكي عن حادثة وقعت في حياة الإمبراطور الروماني هيليوغابالوس.
اشتهر هذا الامبراطور بغرابة أطواره وبتعصّبه وانحلاله. وكان ينافس نيرون وكاليغولا في الشرّ والرذيلة. وقد ألهمت حياته وشخصيّته عددا من القصائد والروايات واللوحات المشهورة.
كان من عادة هيليوغابالوس أن يقيم في قصره حفلات عشاء يقدّم خلالها صنوف الأطعمة الشهيّة والباذخة. لكن لم يكن ضيوفه يستمتعون بالأكل خوفا ممّا قد يحدث لهم في نهاية العشاء.
واللوحة تصوّر احد تلك الاحتفالات ويظهر فيه ضيوف يحضرون حفل عشاء فاخر في قصر الامبراطور المستلقي على سريره والمحاط بعدد من محظياته ورجال حاشيته، بينما ينهمر من أعلى شلال من أزهار البنفسج وأزهار أخرى.
وباعتبار ما كان لهذا الرجل من سمعة سيّئة في إهانة وتعذيب ضيوفه، يمكن للمرء أن يتخيّل كيف سينتهي هذا الاحتفال. كان بعض الضيوف يُجلدون بالسياط والبعض الآخر يتمّ إغراقهم في الماء بينما الباقون يراقبون ما يحدث بهلع.
وكثيرا ما كان هذا الامبراطور المعتوه يسلّط على ضيوفه بعد أن يفرغوا من تناول العشاء أفاعي سامّة لتقوم بلدغهم وقتلهم أو يطلق عليهم نمورا وأسودا كي تقوم بافتراسهم وهم أحياء.
وكانت صرخات الرجال والنساء يتردّد صداها في الليل في شوارع روما المظلمة تصاحبها ضحكات الامبراطور المجنون الذي كان يستمتع بمشاهدة مناظر الرعب.
الرسّام لورنس الما تاديما كان مشهورا بلوحاته التي تجري أحداثها في الأزمنة القديمة. غير انه رسم أيضا بورتريهات وطبيعة وألوانا مائيّة. وبسبب براعته الفنّية ومعرفته وثقافته الواسعة، كانت لوحاته غالبا ما تعكس إحساسا بالشباب والحيويّة.
كان هذا الرسّام ذو الأصول الهولندية إنسانا متفتّحا وذا شخصية دافئة. كما كان رجل أعمال ناجحا، بل وأحد أثرى الرسّامين في القرن التاسع عشر. وقد عُرف عنه حزمه في المسائل المالية وحرصه على تجويد عمله. كما كان ميّالا إلى المرح وروح الدعابة المهذّبة ومحبّا للنبيذ والنساء والحفلات. وقد شبّهه بعض النقّاد بالأطفال من حيث براءته ومزاجه المتقلّب.
هيليوغابالوس كان اسمه الأصلي سكستوس باسيانوس. وقد أطلق عليه هيليوغابالوس بعد موته. حكم هذا الرجل، المولود في سوريا البعيدة عن مركز الامبراطورية، روما لأربع سنوات من عام 218 إلى 222م وكان عمره وقتها لا يتجاوز الرابعة عشرة. وعُيّن إمبراطورا بعد اغتيال الامبراطور كاراكالا.
وقد اتسم عهده بالفضائح الجنسية والجدل الديني. كما اظهر احتقاره للتقاليد الرومانية الدينية، وذلك عندما أمر بنقل الآثار المقدّسة من دين الرومان من أماكنها ووضعها في معبده بحيث لا يُعبد ربّ سوى آلهته الخاصّة. كما أمر بأن يُختن لكي يصبح الكاهن الأوّل لدينه الجديد.
كان هيليوغابالوس يقدّس حجر نيزك كان يحتفظ به في معبده ظنّا منه أنه مرسل من السماء. وكان من عادته أن يقيم كلّ عام مهرجانا ويضع الحجر على عربة مزيّنة بالذهب والمجوهرات ويطوف به أرجاء المدينة. وكان الناس مسرورين بتلك الطقوس لأنه كان يصحبها توزيع للأطعمة بالمجّان.
تزوّج هيليوغابالوس خمس مرّات واتخذ له أصدقاء ذكورا من داخل القصر. بل يقال انه حوّل نفسه إلى بغيّ ذكر في البلاط. وأشيع ذات مرّة انه عرض مبلغا كبيرا من المال على طبيب إن هو تمكّن من زراعة عضو أنثوي له.
وقد أدّت سلوكياته الغريبة إلى انفضاض مجلس الشيوخ من حوله وكذلك الحرس والناس العاديّين. وبعد أن أكمل عامه الرابع في الحكم نفّذ حراسّه الغاضبون خطة أشرفت عليها جدّته وانتهت بمصرعه. وقُتلت معه والدته ثم قُطع رأساهما وعُرضت جثّتاهما عاريتين على الناس وطيف بهما في شوارع روما.
تجربة هيليوغابالوس الغريبة في الحكم عزّزت شكوك الرومان بأن الرجال الآتين من الشرق إمّا أن يكونوا منحرفين أو شاذّين جنسيّا أو معتوهين وأن أهمّ ما يشغلهم هو أن يغمروا أنفسهم بالعطور وبجيوش من العبيد والمخصيين.
لوحات الفنّان لورنس الما تاديما تغلب عليها صور لنساء في شرفات من المرمر تطلّ غالبا على البحر. ورسمه الشديد الواقعية للرخام استحقّ عليه في ما بعد لقب "الرسّام الرخاميّ". وأعماله، بشكل عام، تُظهر روعة الألوان والتنفيذ التي كانت تميّز الرسّامين الهولنديين الأوائل.
وقد اشتهر الما تاديما أيضا بتصميم الأثاث والقماش. وكان يوظّف لذلك موتيفات مصرية ورومانية. واهتماماته المتنوّعة كانت مؤشّرا على موهبته التي استخدمها بنجاح في لوحاته. كما استخدم تصاميمه في اللباس الذي تظهر به موديلاته.
كان الما تاديما يقرأ كثيرا ويأخذ من الكتب صورا ليرسمها. وقد جمع صورا عديدة من المواقع القديمة التي زارها في ايطاليا واستخدمها بدقّة وبتفاصيل رائعة في بعض لوحاته.
تلقّى الفنّان العديد من الجوائز، كما مُنح درجة دكتوراة فخرية من جامعة أكسفورد وأنعم عليه بلقب فارس. وفي نهاية حياته، قلّ إنتاجه بسبب ضعف صحّته وانشغاله بتزيين بيته الذي انتقل إليه قبل خمس سنوات من وفاته في يونيو 1912م.
الما تاديما، الذي كان عند وفاته احد أشهر رسّامي زمانه، سرعان ما نسيه الناس بحلول نهاية ثلاثينات القرن العشرين، مع ظهور مدارس الفنّ الحديثة كالانطباعية والوحوشية والتكعيبية وغيرها. وبعض النقّاد اليوم ينظرون إلى لوحاته بازدراء ويصفونها بالزخرفية والخالية من أيّ معنى أو مضمون.

Sunday, May 18, 2014

لوحات عالميـة – 345

الفـلاسفـة الثـلاثـة
للفنان الإيطالي جـورجيـونـي، 1509

تجاوز جورجيوني فنّ عصر النهضة بابتكارين مهمّين: الأوّل انه أوّل من تبنّى في وقت مبكّر التقنية الجديدة في الرسم على القماش بدلا من لوحة الخشب. والثاني انه كان من أوائل الرسّامين الذين أتقنوا استخدام الألوان الزيتية. كما أن جورجيوني لم يكن يضع رسومات تحضيرية على الورق قبل الرسم، وبذا كسر تقليدا فنّيا قديما في فلورنسا كان قد أرساه قبله كلّ من ليوناردو ومايكل انجيلو.
لوحات جورجيوني، على الرغم من قلّة عددها "عشر لوحات تحديدا"، تتّسم بغموضها وبأجوائها الرعوية الملغزة. وهذه اللوحة ليست استثناءً. ولهذا السبب، وربّما لأسباب أخرى غيره، اعتُبرت اللوحة من بين أكثر الأعمال الفنّية شهرة في فينيسيا خلال عصر النهضة.
ويقال إن السبب في غموض معناها هو أن الفنّان رسمها بناءً على طلب خاصّ من راعيه الحصري، وهو نبيل فينيسي يُدعى تاديو كونتاريني كانت له اهتمامات بالخيمياء وبكلّ ما هو غامض. ولم يكن موضوع اللوحة معروفا سوى للراعي ولأصدقائه المقرّبين وللرسّام فقط.
يصوّر جورجيوني في اللوحة ثلاثة فلاسفة في منظر طبيعي. وهويّة هؤلاء الفلاسفة ما تزال مثار جدل بين مؤرّخي الفن. بعضهم يقول إنهم فيثاغوراس واثنان من معلّميه وأن اللوحة نفسها ترمز إلى تطوّر الفلسفة.
لكن في زمن جورجيوني كانت كلمة "فيلسوف" تعني الفلكي أو المنجّم، ما حدا بالبعض إلى الاعتقاد بأن الرجال الثلاثة الظاهرين في اللوحة هم من المجوس الأتقياء الذين ذهبوا إلى بيت المقدس مبشّرين بولادة المسيح.
وقيل إن اللوحة تمثّل ثلاث مراحل من الفكر الإنساني: عصر النهضة ويمثّله الشابّ، وعصر التوسّع الإسلامي ويمثّله الرجل الذي يرتدي عمامة، والعصور الوسطى ويمثّلها الرجل العجوز.
وهناك من قال إن الرجل المعمّم هو ابن رشد، الفيلسوف المسلم من القرن الثاني عشر والذي عاش في اسبانيا وكان فقيها وطبيبا أيضا. ولو صحّت هذه الفرضية فإن هذا يساعد على إلقاء الضوء على صورة الفلسفة الإسلامية ودور الإسلام في مفاهيم أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة الأوروبية.
غير أن هناك نظريات أخرى تشرح معنى اللوحة. إحداها تذهب إلى أن الرجال الثلاثة يمكن أن يمثّلوا الأعمار الثلاثة للإنسان. كما راجت نظرية أخرى تقول إن الرجال الثلاثة يمثّلون ثلاث حركات فلسفية: الرجل الكهل ويمثّل الفكر القديم، والرجل الذي يرتدي عمامة ويمثّل الفلسفة العربية، والشابّ الجالس ويمثّل العلم الحديث.
بعض مؤرّخي الفنّ حاولوا تحديد هويّة الأشخاص الثلاثة اعتمادا على طبيعة لباسهم غير العاديّ، وتوصّلوا إلى أن الأوّل إلى اليمين، أي العجوز الذي يرتدي ثيابا صفراء ويمسك بورقة أو كتاب عليه ما يشبه الرموز الفلكية، لا بدّ وأن يكون يونانيّا أو مسيحيّا. ومن وجهة نظرهم، يُرجّح أنه تاليس.
أما الثاني فيُعتقد انه مسلم بسبب العمامة والزيّ الشرقيّ الذي يرتديه، وأغلب الظنّ انه ابن رشد.
أما الثالث، أي الشابّ الجالس على الأرض معطيا ظهره للاثنين، فيُعتقد انه فيثاغوراس تلميذ تاليس. فيثاغوراس يبدو معجبا بأشعّة الشمس على الرغم من أن الصخرة التي أمامه مسجّاة في الظلام والشمس تشرق من مكان آخر. وهو يظهر ممسكا بمربّع وبوصلة ويبدو كما لو أنه يحاول قياس الكهف الذي أمامه. وقد يكون لهذا علاقة بكهف أفلاطون الرمزيّ الذي يرى بأن البشر أشبه بمن يسكنون كهفا ولا يرون فيه سوى الظلال التي يظنّون أنها الواقع.
المشهد في اللوحة يحدث في العصور الكلاسيكية القديمة، وبالتحديد على تلّة بالقرب من ميليتوس في بلاد اليونان. ومن الواضح أن جورجيوني أراد من خلال هذا العمل أن يحتفل بالانجازات والإسهامات الفكرية للديانة الوثنية الكلاسيكية، فضلا عن تلك التي للإسلام.
من أهم سمات هذه اللوحة أن الرسّام قدّم المزاج واللون بشكل نحتيّ. وهناك أيضا النمذجة الرائعة للعباءات. كما أن استخدام تقنية المزج التدريجي للألوان يذكّرنا بلقاء جورجيوني وليوناردو في العام 1500م. وكما هو الحال مع كلّ أعمال الرسّام الأخرى، فإن اللون والضوء والمزاج في هذه اللوحة فيها ابتكار وتكثيف مع إيحاء بالمجهول.
كانت أعمال جورجيوني تترك انطباعا على المتلقّين عبر القرون. صوره الحزينة والحالمة تشبه الشعر المرسوم. وقد فتنت معاصريه وكان لها تأثير مباشر على الفنّ في فينيسيا على مدى أجيال. ومن بين من فُتن بلوحاته الشاعر الانجليزيّ اللورد بايرون الذي أشار إلى جورجيوني وإلى فنّه في شعره.
جورجيوني "الذي يعني اسمه جورج الكبير أو الطويل" كان شخصا غامضا مثل فنّه. قيل إنه كان مشهورا بوسامته. كما كان مولعا بالشعر وبالموسيقى. وقد ولد في فينيتو بإيطاليا، وانتقل لاحقا إلى فينيسيا، حيث عمل مع جيوفاني بيلليني، وكان له تأثير كبير على تيشيان.
كان جورجيوني مؤمنا بالأفكار الانسانوية والفردانية. وهذه الأفكار واضحة في هذه اللوحة. فهو يركّز على الإنسان بدلا من المعمار أو الطبيعة. وكلّ واحد من الأشخاص الثلاثة يُظهر فردانيّته وتميّزه في الشخصية وفي اللباس. ومن المعروف أن الفردانية تأخذ الإنسان خطوة ابعد بالقول إن البشر المتفرّدين، أي المختلفين في ثقافاتهم ومعتقداتهم، قادرون على تحقيق الإنجازات العظيمة.
انتهى جورجيوني من رسم هذه اللوحة قبل عام واحد من وفاته. وهي اليوم من مقتنيات متحف تاريخ الفنّ في فيينا. وقد توفّي الفنّان وهو في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الثالثة والثلاثين بعد أن انتقل إليه مرض الطاعون من عشيقته.

Thursday, April 17, 2014

لوحات عالميـة – 344

قبّعة القشّ أو بورتريه سوزانا لوندين
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1625

كان روبنز مولعا بالنساء المثيرات اللاتي كان يملأ بهنّ لوحاته وأصبحن علامة مميّزة وفارقة على فنّه. وهو في هذه اللوحة يرسم امرأة من عصر الباروك تبدو جميلة ومرغوبة وربّما غير متحفّظة، بعينين واسعتين وبشرة شاحبة تلمع في الضوء. وقد رسمها كما لو أنها لا تدرك الجمال الذي تتمتّع به أو أنها محرجة منه. ومن الملاحظ أيضا أنها لا تنظر إلى الرسّام ولا إلى المتلقّي.
النقّاد يعتبرون هذا البورتريه من بين أفضل أعمال روبنز. وبلغ من شهرته أن شبّهه بعضهم بالموناليزا. وكان له تأثير على أجيال عديدة من الرسّامين عبر العصور. وقد قلّدته الرسّامة الفرنسية لويز فيجي لو بران في لوحتها لنفسها بعنوان قبّعة القشّ.
اسم المرأة الظاهرة في اللوحة سوزانا فورمنت. وهي الابنة الثالثة لدانيال فورمنت الذي كان تاجر حرير مشهورا في مدينة انتويرب.
شقيقة سوزانا الصغرى، هيلينا، أصبحت زوجة روبنز الثانية منذ العام 1630م. وأخت زوجة روبنز الأولى ايزابيللا براندت كانت متزوّجة من شقيق سوزانا. ويبدو أن الفنّان رسم لها هذا البورتريه لمناسبة زواجها الثاني عام 1622. النظرات المباشرة من تحت ظلال القبّعة والخاتم في إصبعها يوحيان بأن اللوحة عبارة عن بورتريه للزواج. وكان زواج سوزانا الأوّل قد انتهى بوفاة زوجها وكانت ما تزال فتاة مراهقة.
ملامح المرأة ونظراتها تبدو مسترخية ومطمئنة، ربّما بسبب العلاقة التي تربط عائلتها بالرسّام. والقبّعة التي تظلّل وجهها هي السمة البارزة في هذه اللوحة. وهي ليست مصنوعة من القشّ كما يوحي العنوان، بل من الفراء. وعندما تتأمّل شكلها فلا بدّ وأن تتذكّر القبّعات التي ترتديها السيّدات في مسابقات الخيول التي تعرضها محطّات التلفزيون هذه الأيّام.
شخصية المرأة واقعية جدّا ولا شيء فيها ينتمي إلى عالم آخر. والجزء الأيمن من وجهها يقع في الظلّ جزئيّا، ربّما بسبب طرف القبّعة السميك. لكن الظلّ لا يقلّل من بريق بشرتها أو اتّساع عينيها.
فستانها الرماديّ فخم وأكمامه الحمراء المنفصلة والمربوطة إلى جسدها بدانتيل ذهبي تبدو غير مألوفة. وألوان الأشرطة تتناغم مع ألوان الشفتين والرموش.
روبنز يُظهر لنا من خلال اللوحة نموذجا لرسم الباروك كما يتجلّى في ضربات الفرشاة الحرّة وفي طريقة تمثيل الفستان والقبّعة، وأيضا في التباين ما بين الضوء والظلال للتركيز على المناطق المهمّة في اللوحة. الألوان القويّة في الملابس والتباين بين الألوان والنسيج وبين القماش والبشرة، كلّ هذه السمات تسهم أكثر في جعل المرأة نقطة الارتكاز الأساسية في اللوحة.
مع تقدّمه في رسم اللوحة، وسّع روبنز مساحتها، فأضاف شريطا ثالثا من الخشب إلى اليمين وعند القاعدة، وبذا خلق امتدادا اكبر للسماء. كما أضاف غيوما إلى اليمين تتباين مع السماء الصافية جهة اليسار والتي يأتي منها الضوء ليغمر الجسد واليدين.
تقسيم السماء بهذه الطريقة يُحتمل انه ينطوي على رمزيّة ما. السماء ذات الغيوم الداكنة يمكن أن تكون رمزا لحزن الأرملة الشابّة. وبالمقابل، يمكن أن تكون السماء الزرقاء الصافية علامة تفاؤل وأمل بأن يحمل لها الزواج الجديد الراحة والسعادة.
بالإضافة إلى اشتغاله بالرسم، كان روبنز مثقّفا وديبلوماسيّا ورجل أعمال. وقد استطاع أن يُحكم سيطرته على تجارة الرسم في أوربّا من محترفه في مدينة انتويرب البلجيكية. كانت لوحاته مختلفة تماما عن أيّ شيء رآه الناس من قبل. وقد رسم الجسد بحرّية كانت وما تزال إلى اليوم تُعتبر مستفزّة.

Sunday, April 13, 2014

لوحات عالميـة – 343

قـارئـة الحـظّ
للفنان الفرنسي جـورج دو لا تــور، 1630

كان الغشّ أو الخداع موضوعا شائعا بين الرسّامين الأوربّيين المتأثّرين بأفكار كارافاجيو في القرن السابع عشر. وهذه اللوحة تُعتبر إحدى اللوحات المشهورة التي تتناول هذا الموضوع المثير. وهي تصوّر شابّا ثريّا يتقدّم لامرأة طاعنة في السنّ كي تقرأ له طالعه. وتبدو العجوز وهي تلتقط عملة معدنية من يد الشابّ كأجر للخدمة وكجزء من طقوس المهنة.
الشابّ يرتدي أشياء نفيسة تشي بطبقته الاجتماعية الرفيعة، مثل الملابس الحريريّة والسلسلة التي تنتهي بميدالية ذهبيّة.
المرأة إلى أقصى اليسار تبدو وهي تسرق محفظة الشابّ من جيبه، بينما شريكتها الأخرى المرسومة جانبيّا تمدّ يدها لتلقّي الغنيمة.
المرأة ذات الوجه الشاحب والواقفة إلى يسار الشابّ تبدو، هي الأخرى، منهمكة في دورها وهي تقطع الميدالية التي يرتديها الشابّ وتفصلها عن سلسلتها. لاحظ نظراتها الحادّة ووجهها الصارم. إنها تصوّب عينا متفحّصة على الضحيّة. وهي تستخدم النظرات عوضا عن حركة الرأس التي قد تجلب الانتباه وتتسبّب في بعض المخاطر.
معظم أو جميع النساء في هذه اللوحة من الغجر. وهنّ يُصوّرن كلصوص أو نشّالات، جرياً على الصورة النمطية الشائعة عن الغجر الذين يقال إنهم شعب شرقيّ، وعادة ما يرتدون العباءات والأردية المربوطة فوق الكتف ولباس رأس يشبه العمامة.
في الجزء الأسفل من فستان المرأة العجوز، يمكن رؤية نقوش لصقور تحوم فوق أزهار وتهاجم أرانب بيضاء. وفي هذا تشبيه طريف بأن للغجر عيون الصقور وهم على وشك أن ينقضّوا على فريستهم الذي يبدو كالأرنب المذعور.
قد يكون التوليف في اللوحة مستوحى من مشهد مسرحيّ أو من الحياة اليومية الواقعية. وقد يكون له علاقة بالقصّة الدينية المشهورة عن الابن الضّالّ الذي يبدّد أموال عائلته الثريّة على الشراب والنساء والقمار ثمّ يصبح لصّا وينتهي به الأمر في زريبة للخنازير قبل أن يعود ثانية إلى عائلته نادما تائبا.
اكتشف هذه اللوحة احد سجناء الحرب بعد أن رآها في إحدى القلاع القديمة في فرنسا عام 1949. وقد تدخّل متحف اللوفر وقتها وحاول شراءها. لكن اللوحة ذهبت في النهاية لتاجر دفع لاقتنائها حوالي ثمانية ملايين فرنك فرنسي. وظلّت بحوزته إلى أن اشتراها متحف المتروبوليتان في نيويورك عام 1960 مقابل مبلغ كبير لم يُكشف عنه.
الطريقة التي غادرت بها اللوحة فرنسا ظلّت لغزا وأثارت جدلا في الصحف الفرنسية في ذلك الوقت. وقد حاول اندريه مالرو، وزير الثقافة الفرنسية آنذاك، أن يشرح لماذا لم يفلح اللوفر في شرائها. وقيل إن الشخص المسئول عن إجازة تصدير اللوحة إلى الولايات المتحدة، وهو خبير في الأعمال الفنّية القديمة، فعل ذلك لأنه كان يشكّك في أصالتها.
والحقيقة أن أصالة اللوحة كانت مثار شكوك بعض مؤرّخي الفنّ. ففي عام 1984، نشر مؤرّخ فنّ بريطانيّ يُدعى كريستوفر رايت كتابا بعنوان "فنّ التزوير" زعم فيه أن اللوحة الموجودة في المتروبوليتان، مع أعمال أخرى تُعزى لدي لا تور، هي نسخ مزوّرة منذ العشرينات وأن من زيّفها هو فنّان ومرمّم لوحات يُدعى اميل ديلوريه.
غير أن هناك اليوم شبه إجماع بأن هذه اللوحة لدي لا تور. وهي لا تحمل تاريخا. لكن يظهر في طرفها العلويّ توقيع أنيق وبارز باسم الرسّام. وقد استُخدمت اللوحة غلافا لكتاب بعنوان عندما تحدث أشياء سيّئة للآخرين ، وهو عبارة عن دراسة لظاهرة الغشّ والخداع. كما أن لهذه اللوحة علاقة مباشرة بلوحة أخرى لدي لا تور اسمها الخدعة توجد منها نسختان: واحدة في اللوفر، والثانية في متحف كيمبل للفنون في الولايات المتحدة.
جورج دي لا تور نفسه لم يكن معروفا سوى بالكاد وذلك حتى بداية القرن العشرين. وطوال القرون الثلاثة التي تلت وفاته كان منسيّا تماما تقريبا. لكنّه أصبح رسّاما معروفا منذ العشرينات. وقد ظهر من النسيان عدد كبير من اللوحات المنسوبة إليه وأصبحت أعماله عالية الثمن.
مناظر دي لا تور تتّسم بسكون الشخوص وبالتوتّر الرائع الذي تخلقه قصصه وبجاذبيّة لوحاته بالنسبة للذوق الحديث. وتُنسب له أربعون لوحة أتمّها خلال فترة اشتغاله بالرسم والتي قاربت الثلاثين عاما. وهو مشهور خاصّة بسلسلة لوحاته عن الليل الذي تضيئه القناديل.
ولد دي لا تور لخبّاز من اللورين التي كانت دوقيّة مستقلّة على الحدود بين فرنسا وألمانيا. كان رسّاما مبتكرا. لكن حياته الدنيئة ومزاجه السيّئ وغطرسته سبّبت له العديد من المشاكل وقادته مرارا إلى قاعات المحاكم والسجون. ولهذا السبب عرف أشياء كثيرة عن حياة المزوّرين واللصوص والمغفّلين الذين كان يرسمهم في لوحاته.

موضوع ذو صلة: عودة أمير الظلام

Tuesday, April 01, 2014

لوحات عالميـة – 342

إستـراحة أثنـاء الرحلـة إلـى مصـر
للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو، 1597

في وقت ما من القرن السادس عشر، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية أمرا بألا يرسم الفنّانون أساطير تُعتبر مشكوكا في صحّتها. ورغم أن القصّة التي تحكي عن رحلة العائلة المقدّسة، أي مريم ويوسف النجّار والمسيح الطفل، إلى مصر ذُكرت بشكل عابر في الإنجيل وروى أخبارها بتفاصيل مختلفة المسيحيّون الأوائل ورجال الدين في القرون الوسطى، إلا أن سلطات الكنيسة ظلّت تشكّك في مصداقيّتها.
لكنّ هذا لم يثنِ الفنّانين عن رسم القصّة في العديد من الأعمال التي يعود أقدمها إلى نهاية القرن السادس عشر. بل لقد أصبحت هذه القصّة موضوعا مفضّلا ورائجا في الرسم طوال القرون الثلاثة التالية. وبدأ رسمها في هولندا ابتداءً من القرن الخامس عشر، ثم أصبحت موضوعا مفضّلا عند الرسّامين الألمان الرومانتيكيين وعند غيرهم.
تقول القصّة إن ملاكا ظهر أمام يوسف النجّار وحذّره من خطط الملك الروماني هيرود لقتل المسيح الرضيع. ثم نصحه الملاك بأخذ الطفل وأمّه إلى مصر طلبا للامان. ويقال إن ذلك ترافق مع زيارة المجوس للقدس وذهابهم إلى هيرود ليسألوه أين يمكن أن يجدوا الطفل الرضيع أو "ملك اليهود" الذي أنباتهم بمولده النجوم.
وقد شعر هيرود بالذعر من احتمال أن يهدّد الطفل عرشه فصمّم على قتله. وكان هذا هو السبب في ارتكاب هذا الملك لما أصبح يُعرف في ما بعد بمذبحة الأبرياء، وذلك عندما أمر رجاله بقتل كلّ الأطفال الرضّع على أمل أن يكون المسيح الصغير من بينهم.
ولهذا السبب، قرّرت العائلة المقدّسة، يوسف والعذراء والمسيح الصغير، الفرار إلى مصر على ظهر بغل. وكانت مصر اختيارا مناسبا، لأنها تقع خارج نفوذ هيرود. كانت مصر وفلسطين في ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. ولأنهما مرتبطتان بطريق يمرّ عبر ساحل البحر، فقد كان السفر بينهما أمرا سهلا ومأمونا.
مكث يوسف وعائلته لبعض الوقت في مصر. وعادوا من هناك إلى فلسطين بعد أن مات أعداؤهم كما تقول القصّة. فهيرود انتهى إلى ميتة شنيعة. وأصبحت الجليل يحكمهما ملك أكثر ميلا للهدوء والحكمة وصارت المدينة في عهده ملاذا آمنا للكثيرين.
ومن أشهر الأعمال التشكيلية التي تناولت موضوع الرحلة إلى مصر هذه اللوحة لكارافاجيو. وعلى غرار ما فعله العديد من الرسّامين الآخرين، فقد رسم كارافاجيو العائلة المقدّسة أثناء توقّفها للراحة في بستان بعد ثلاثة أيّام متواصلة من السفر.
كارافاجيو رسم هنا العذراء وطفلها ويوسف وهم يستريحون في احد الحقول. ورسم أيضا وسيلة السفر؛ أي البغل الذي يظهر في اللوحة وهو يراقبهم من الخلف. لكن الرسّام ضمّن المنظر شخصية لملاك أنثى تعزف الموسيقى.
الملاك التي تعطي ظهرها للناظر رُسمت عموديّا كي تقسم اللوحة إلى جزأين: جزء إلى اليمين نرى فيه جانبا من نهر، والعذراء وهي تحتضن طفلها. وجزء إلى اليسار وفيه يظهر يوسف وهو جالس وممسك بنوتة موسيقية كتبها إكراما للعذراء.
ومن الواضح أن الملاك التي تظهر وهي تعزف الكمان ليس لها أيّ دور في القصّة الأصلية كما لم يرد ذكرها في أيّ مصدر، بل هي من ابتكار الرسّام، ربّما لكي يضفي على المشهد طابعا سماويّا. ومع ذلك فالموسيقى ظلّت، ولأجيال طويلة، صورة مجازية للإبداع الفنّي.
شخص الملاك نفسها يشبه تمثالا من الحجر، مع وشاح ابيض يلتفّ حول جسدها ويشبه، هو أيضا، آلة كمان. وهذا مثال جيّد للتدليل على مدى قابلة الأشياء للتكييف والتحوير.
واقعية اللوحة واضحة في طريقة الرسّام في تمثيل الأشجار والأوراق والحجارة وغيرها من التفاصيل. والمنظر الطبيعي يثير إحساسا بالحنين. كما انه يذكّرنا بمناظر كارافاجيو التي كان يستلهمها من تراث وطبيعة بلده فينيسيا.
قصّة الرحلة إلى مصر كثيرا ما تُروى مع معجزات وتفاصيل غريبة، مثل سقوط صنم بمجرّد أن يمرّ المسيح الطفل بقربه، ولصوص يتخلّون من تلقاء أنفسهم عن خططهم للإغارة على العائلة في الصحراء، ونخلة تثني نفسها كي تسمح لهم بقطف ثمارها، وينبوع ماء يتفجّر في الصحراء فجأة كي يرووا منه عطشهم.
وهناك روايات تتحدّث عن قصّة أخرى حدثت لهم بعد وصولهم إلى مصر، وهي لقاء الطفل المسيح بابن عمّه يوحنّا المعمدان الذي تقول الأسطورة انه أنقذ من مذبحة الأبرياء في بيت لحم على يد احد الملائكة. وقد كان موضوع هذا اللقاء رائجا في رسم عصر النهضة. وأفضل مثال عنه هو لوحة ليوناردو دافنشي "عذراء الصخور" ولوحة رافائيل "عذراء كنيسة سيستين".
موضوع الرحلة إلى مصر رُسم أحيانا مع ملائكة، وأحيانا أخرى مع ولد يقال انه ابن يوسف من زواج سابق. وفي بعض اللوحات، كانت العذراء تُرسم مع نور ذهبيّ يشعّ من رأسها ورأس الطفل.
ومن بين من رسموا القصّة الفنّان الفرنسي جيرار دافيد، والرسّام الأمريكي من أصول افريقية هنري تانر الذي ضمّن القصّة أفكارا معيّنة مثل الحرّية الشخصية والهرب من الاضطهاد وهجرة الأمريكيين السود من الجنوب إلى الشمال.
الجدير بالذكر أن كارافاجيو كُلّف برسم هذه اللوحة من قبل الكاردينال فرانسيسكو دل مونتي الذي كان كارافاجيو رسّامه الخاص. ويقال إن الكاردينال كان يتمتّع بذوق رفيع وثقافة عالية. ويبدو أن هذه اللوحة كانت تناسب شخصيّته واهتماماته.

Wednesday, January 15, 2014

لوحات عالميـة – 341

بورتريه زوجة الرسّام أو سيّدة بفستان ابيض
للفنان البلجيكي ثيـو فـان ريسـلبـيرغ، 1926

هذه اللوحة تُعتبر مثالا على الأسلوب "التنقيطي" "أو التجزيئي" في الرسم والذي كان ينحو باتجاه تجزئة الألوان على رقعة الرسم ووضعها على هيئة نقاط متجاورة.
كان التنقيطيون "أو التجزيئيون"، أو "الانطباعيون المتأخّرون" كما يُسمّون أحيانا، يعتقدون أن مزج الألوان أمر غير ضروري وأن استخدام نقاط من الألوان النقيّة جنبا إلى جنب من شأنه أن يحقّق أقصى قدر من التألّق واللمعان والتناغم مع حالات الضوء وبحيث تظهر النقاط في النهاية وكأنها تختلط وتمتزج في عين المتلقّي لتشكّل صورة كلّيّة.
وقد تزامنت ولادة هذه الحركة مع ظهور نظرية الألوان التي وضعها ميشيل شيفرول وغيره من منظّري أواخر القرن التاسع عشر. ولعبت هذه النظرية دورا مهمّا في تشكيل أسلوب الرسّامين التنقيطيين.
الرسّام ثيو فان ريسلبيرغ كان احد أهمّ الرسّامين التنقيطيين أو ما بعد الانطباعيين. وقد لعب دورا مركزيّا في الساحة الفنّية الأوروبية في مطلع القرن العشرين. وهو معروف على وجه الخصوص بأعماله التي رسمها خلال مرحلته التنقيطية.
كان ريسلبيرغ متمرّدا على التقاليد الأكاديمية التي عفا عليها الزمن وعلى المعايير الفنّية التي كانت سائدة في وقته. ومن بين أبرز زملائه من ذوي النزعة المتمرّدة أيضا كلّ من جيمس إنسور وفرناند كنوبف وبول سينياك وجيمس ويسلر.
وقد تبنّى ريسلبيرغ الأسلوب التنقيطي بعد أن رأى لوحة "يوم أحد في جزيرة لاغران جات" للرسّام الفرنسي جان بيير سُورا. وشكّلت تلك اللوحة بداية هذه الحركة عندما عُرضت لأوّل مرّة في صالون الرسّامين المستقلّين في باريس عام 1886. في ذلك الوقت، كان العديد من الرسّامين يبحثون عن أساليب جديدة. وكان أتباع التنقيطية أو الانطباعية المتأخّرة منجذبين لتسجيل تفاصيل الحياة الحضرية الحديثة، فضلا عن المناظر الطبيعية والحياة على الشواطئ.
في تلك الفترة أنجز ريسلبيرغ أعظم أعماله التي تلفت النظر وتبرهن على قدرته في توظيف الألوان والتقاط تأثيرات أشعّة الشمس. في لوحته هنا يرسم ريسلبيرغ زوجته ماري وهي جالسة في حديقة منزلهما على شاطئ الكوت دازور. وتبدو الزوجة وهي ترتدي قبّعة عريضة وفستانا ابيض وعلى وجهها نظرات تأمّل واسترخاء.
لاحظ كيف أن الفنّان ركّز على الأضواء والألوان. التقنيّات النقطية موظّفة هنا بوضوح على الفستان والقبّعة. لكن الرسّام يمزج هذا مع لمسة واقعية. وعندما رسم هذا البورتريه كان معلّمه سورا قد توفّي وبدأ هو في التخلّي شيئا فشيئا عن التقنيات النقطية والتحوّل إلى أسلوب فنّي أكثر مرونة وواقعية.
في بدايات الحركة التنقيطية، أي حوالي عام 1886، لم يرحّب بها النقّاد أو الجمهور. لكنها استمرّت وانتشرت، وإن على نطاق ضيّق، حوالي خمس سنوات. وعندما توفّي مؤسّسها جورج سورا في عام 1891 لم تتوقّف الحركة بل واصلت تطّورها على مدى السنوات العشر التالية وأصبحت تعبّر عن أفكار سياسية واجتماعية. وكان من أهمّ رموزها، بالإضافة إلى ريسلبيرغ وسورا، كلّ من هنري ادمون كروس وماكسيميليان لوك وبول سينياك ويان توروب.
ولد ثيو فان ريسلبيرغ عام 1862 في إحدى مقاطعات بلجيكا الناطقة بالفرنسية لعائلة برجوازية. ودرس في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسل تحت إشراف جان فرانسوا بورتيل. كانت لوحات بورتيل عن طبيعة وشعوب شمال أفريقيا قد دشّنت الموضة الاستشراقية في بلجيكا. وكان لهذه الأعمال تأثيرها الكبير على ريسلبيرغ. لذا قام بثلاث رحلات إلى بلدان المغرب العربي في ما بين عامي 1882 و 1888 ومكث هناك عاما ونصف رسم خلالها مشاهد خلابة لحيّ القصبة في الجزائر ولمدينتي مكناس وطنجة المغربيتين.
وقد فتحت تلك الرحلة أمامه عالما جديدا، إذ المغرب قريبة من أوروبّا، لكنّها مختلفة عنها تماما من حيث العادات والتقاليد.
وعندما عاد إلى بلجيكا، عرض فيها حوالي ثلاثين عملا من رحلته تلك. وحقّقت تلك اللوحات نجاحا واضحا، خاصّة لوحتيه "مدخنّو الكيف" و"بائع البرتقال". كما عرض لوحته الضخمة والغريبة فانتازيا عربيّة التي تُعتبر من أفضل أعماله التي رسمها في تلك الفترة.
ثم سافر ريسلبيرغ بعد ذلك إلى اسبانيا بصحبة الرسّام الأميركي جون سينغر سارجنت. وفي اسبانيا أعجب بأعمال الرسّامين العظام التي رآها في متحف برادو بمدريد. وبوحي من تلك الرحلة رسم عدة لوحات عن أجواء اسبانيا.
ولأن التمثيل الدقيق للضوء كان ما يزال هاجسا يسكن عقله، فقد سافر ريسلبيرغ إلى هارلم لدراسة الضوء في أعمال الفنّان الهولندي فرانز هولس. وفي هارلم التقى الرسّام الأميركي المشهور وليام ميريت تشيس.
وفي عام 1895، بدأ الرسّام رحلة طويلة أخذته إلى أثينا والقسطنطينية والمجر ورومانيا وموسكو وسانت بطرسبورغ. وبعدها بعامين، انتقل إلى باريس حيث تعرّف على العديد من الأسماء اللامعة في المشهد الفنّي هناك مثل ألفريد سيسلي وبول سينياك وإدغار ديغا وهنري تولوز لوتريك وغيرهم.
في نهايات حياته، تحوّل ثيو فان ريسلبيرغ إلى البورتريه النحتي، مثل نحته رأس الأديب أندريه جِيد. في ذلك الوقت كان قد بنى له منزلا في الكوت دازور وبدأ ينفصل شيئا فشيئا عن المشهد الفنّي في باريس إلى حين وفاته في 14 ديسمبر من عام 1926م.

Wednesday, January 08, 2014

لوحات عالميـة – 340

إغـواء القـدّيـس انطـونيـوس
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1946

تُعتبر قصّة القدّيس انطونيوس احد المواضيع المشهورة والمتكرّرة في الفنّ والأدب الغربيين. في الرسم مثلا، هناك ما لا يقلّ عن 1500 لوحة عن الموضوع يعود أقدمها إلى القرن العاشر الميلادي في ايطاليا.
وفي الأدب، ألّف الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير كتابا يُعدّ اليوم من أهمّ المراجع التي كُتبت عن القصّة. وقد استغرقت كتابته حوالي ثلاثين عاما وتأثّر به أدباء وكتّاب كثيرون من بينهم سيغموند فرويد.
ولد انطونيوس، الذي يُعرف أحيانا باسم انطونيوس المصري، حوالي عام 250م لعائلة موسرة في قرية من قرى مصر. وعاش حياة مريحة ومرفّهة إلى أن بلغ سنّ الثامنة عشرة عندما توفّي والداه وتركاه في عهدة شقيقته غير المتزوّجة.
وفي احد الأيّام سمع انطونيوس راهبا يخطب ويقول: إذا أردت أن تكون إنسانا كاملا فامنح كلّ ما تملكه للفقراء كي تحصل على كنز في السماء". وقد وهب انطونيوس بعد ذلك كلّ ما تملكه عائلته من أموال وأراض وبيوت إلى جيرانه الفقراء. ثم وضع أخته في عهدة مجموعة من الراهبات وقصد الصحراء ليصبح ناسكا ويعيش حياة تقشّف وزهد.
وتمضي القصّة فتقول إن انطونيوس قضى حياته في الصحراء في الصلاة والتأمّل. لكن، وبحسب ما تذكره كتابات من ذلك الوقت، تصدّى له الشيطان محاولا إغواءه فأنزل به السأم والكسل، وذكّره بحياة الثراء والراحة التي تركها وراءه، ثم أرسل إليه النساء الجميلات في محاولة لإغرائه وإيقاعه في الخطيئة.
لكن القدّيس انتصر على كلّ تلك الإغراءات بفضل صلاته وقوّة إيمانه وإرادته. وبعد ذلك انتقل إلى قبر واتخذه مسكنا وأغلق على نفسه الباب. ولم يكن يرى أحدا سوى بعض أهالي القرية الذين كانوا يجلبون له الطعام في عزلته.
بعض المصادر تشير إلى أن انطونيوس كان أوّل ناسك في المسيحية يذهب إلى الصحراء وينقطع فيها للعبادة. وتُروى عنه الكثير من القصص الشبيهة بالأساطير. يقال مثلا انه كان يطير في الهواء ويرى الشياطين تحلّق أمامه وتهاجمه بضراوة في محاولة لصدّه وإعادته إلى الأرض. كما كانت الشياطين تتنكّر له على هيئة حيوانات مفترسة كالأسود والذئاب والأفاعي والعقارب. وفي إحدى رحلاته في الصحراء، قابل شيطانين على هيئة كائنين خرافيين. وقد صوّر بعض الرسّامين ذلك اللقاء الغريب في عدد من اللوحات.
الموتيفات البصرية في قصّة انطونيوس ألهمت العديد من الفنّانين الذين ملئوا رسوماتهم بصور الحيوانات والمخلوقات الغريبة. ووفّرت القصّة لهؤلاء فرصة لإطلاق خيالاتهم الجامحة، فرسموا رؤى وهلوسات وكوابيس مزعجة عن الشياطين التي تتتبّع القدّيس وتعذّبه. ومن أشهر من رسموا الموضوع كلّ من سلفادور دالي وهيرونيموس بوش ومايكل انجيلو وسلفاتور روزا وغيرهم.
في هذه اللوحة التي يمكن اعتبارها ترجمة حديثة للموضوع، يركّز سلفادور دالي على تصوير صراع انطونيوس مع الإغواء، وليس انتصاره عليه، فيرسمه وهو يتصدّى للإغراءات الزاحفة باتجاهه في صورة حصان جامح متبوع بخمسة أفيال ضخمة لها جميعا سيقان كسيقان العناكب.
عَرْض الحيوانات الغريب هو أوّل ما يلفت انتباه الناظر إلى هذه اللوحة. الحصان القائد يرمز للقوّة والمتعة ولرغبات الجسد. والفيل الذي يتبع الحصان مباشرة يحمل فوق ظهره كأس الرغبة الذهبيّ. وفوق الكأس تقف امرأة عارية ترمز للرغبة الجنسية.
الأفيال التالية تحمل المزيد من النساء بالإضافة إلى مسلّة ومعبد قد يكونان رمزين للأخلاق والدين. الفيل الأخير القادم من بعيد، من تحت الغيمة، يحمل برجا طويلا قد يكون رمزا لعضو الذكورة.
وفي الزاوية السفلى إلى يسار اللوحة يظهر انطونيوس وهو يحاول صدّ الإغراءات التي تجلبها الوحوش القادمة، وسلاحه في ذلك صليب يبدو ملتويا قليلا. وهو، أي القدّيس، يظهر متّكئا على صخرة صغيرة وعاريا لأن دالي أراد أن يُظهر ضعفه، بينما تستقرّ بين ساقيه جمجمة صغيرة.
الأسلوب السوريالي واضح في كافّة تفاصيل اللوحة. ودالي، هنا أيضا، يوظّف الأفيال التي كانت دائما احد موتيفاته المفضّلة. السيقان الطويلة للحصان والفيلة ربّما ترمز إلى العلوّ والاقتراب من السماء. ومن الأشياء الملفتة في اللوحة الاستخدام الجميل للألوان اللحمية والبيضاء والبنّية والذهبية.
ويُلاحَظ أيضا أن الرسّام ركز على استعراض الحيوانات وحركتها القويّة مقابل البنية الضئيلة للرجل. ومع ذلك فالحصان المتقدّم رغم قوّته، إلا انه يبدو خائفا من الجسد الصغير للناسك. وفي أسفل الصورة عن بعد، يظهر شخصان يبدوان كما لو أنهما يقودان أو يوجّهان موكب الفيلة.
الغيوم المظلمة والمنذرة بالشؤم التي تظهر في جزء اللوحة الأيمن يعلوها بناء غريب يشبه قصر الاسكوريال الاسباني الذي كان رمزا للسلطة الروحية والزمنية بحكم كونه ديرا وبنفس الوقت مقرّا للملك.
رسم دالي لوحته هذه في محترف بنيويورك. وكان قد قدم إلى المدينة مع عدد من الرسّامين من بينهم بول ديلفو وماكس ارنست ودوروثيا تاننغ وليونورا كارينغتون بناءً على دعوة من إحدى شركات السينما. كانت الشركة قد كلّفتهم برسم لوحات عن موضوع القدّيس على أن تُختار اللوحة الفائزة لتظهر في فيلم مقتبس عن قصّة للكاتب الفرنسي موباسان. وذهبت الجائزة في النهاية إلى ماكس ارنست.
نقّاد دالي لم يكونوا سعداء بأفكاره الروحية ومواضيعه الدينية. لكنه كان مهجوسا بالمطلق وبالرموز الكلاسيكية للمسيحية. واهتمامه بالقصص الدينية سمح له باستكشاف منطقة إبداع جديدة، لذا رسم المادونا والمسيح والعشاء الأخير.
فكرة الإغواء موجودة تقريبا في جميع الأديان. البوذية مثلا تحكي عن أسطورة سيدهارتا الذي يتأمّل تحت شجرة قبل أن يبلغ مرحلة الاستنارة. وأثناء تأمّله يغريه شيطان برؤى عن الشرّ والشهوة. لكن السلام الروحي عند سيدهارتا قويّ بما يكفي لقهر كافّة أشكال الإغواء.
التركيز على قصّة إغواء القدّيس انطونيوس لم يبدأ سوى في القرون الوسطى. ويقال إن كثيرا من هذه القصص المروية عنه مبالغ فيها وأن رواتها وناقليها كانوا من الناس البسطاء وأنها قد لا تكون أكثر من تهيّؤات وخيالات ناتجة عن العزلة الطويلة وربّما الشعور بالاكتئاب.
الجدير بالذكر أن القدّيس أوصى قبيل وفاته بأن يُدفن في قبر سرّي وبلا علامات تميّزه خوفا من أن يصبح قبره مزارا أو محجّا للناس. وقد دُفن في مكان ما على رأس الجبل الذي كان قد اختاره ليعيش فيه في أخريات حياته. وفي ما بعد، اكتُشفت رفاته ثم نُقلت إلى الإسكندرية. وفي وقت لاحق نُقلت إلى القسطنطينية. وفي القرن الحادي عشر أخذت رفاته إلى فرنسا حيث ظلّت فيها إلى اليوم.