Saturday, February 16, 2013

لوحات عالميـة – 310

بورتـريه سيّـدة شـابّـة
للفنان الهولندي بيـتروس كـريستـوس، 1470

كان الرسّامون الهولنديون الأوائل روّادا في فكرة البورتريه الحديث، حيث تصبح صورة الشخص المرسوم سجلا لشخصيّته وانعكاسا لسماته النفسية والمزاجية. وقد اُعجب بهذا التطوّر وقلّده رسّامون كثر في أنحاء متفرّقة من أوربّا. ومنذ البداية جرّب الهولنديون طرقا جديدة في التوليف من خلال التحكّم في فراغات الزوايا وشكل الإطار، بما يعزّز فورية الصورة ويحدّد مكان الشخصية في علاقتها بالمتلقّي ويجعل حضوها أعمق واكبر.
وفي الصور التي رُسمت في ما بعد، أصبح الرجال والنساء المرسومون يتواصلون مع المتلقّي من خلال نوعية حضورهم السيكولوجي الذي تعبّر عنه النظرات أو الإيماءات.
بيتروس كريستوس هو احد أوائل الرسّامين الهولنديين الذين برعوا في رسم البورتريه. كان متأثّرا بأستاذه فان آيك، لكن كان لديه هو أيضا أسلوبه المبتكر. وكان ميّالا إلى تطويع وتعديل أسلوبه من وقت لآخر كي يلبّي رغبات رعاته وزبائنه بما يتناسب مع أذواقهم.
ومع أن سيرته ظلّت لغزا، إلا أن من المعروف أن كريستوس كان أوّل من ادخل المنظور الهندسي إلى الرسم الهولنديّ. والأهميّة التاريخية للرسّام تكمن في اهتمامه القويّ بتحديد الفراغات واستكشاف الزوايا وتوظيف ذلك في رسم البورتريه. وأوّل إشارة إلى اسم كريستوس كانت في العام 1444 عندما مُنح جنسية مدينة بْرُوج، عاصمة اكبر مقاطعة في بلجيكا آنذاك والتي كانت تُسمّى "فينيسيا الشمال" نظرا لأهميّتها الاقتصادية والتجارية.
كانت بورتريهات كريستوس توصف بأنها رسمية ومتكلّفة أكثر ممّا ينبغي. غير أن هذه اللوحة بالذات يصدق عليها قول احد النقّاد أنها لؤلؤة مصقولة تتلألأ فوق أريكة من المخمل الأسود. وقد رسمها في أخريات حياته ونفّذها على لوح من خشب السنديان.
في اللوحة، التي تذكّرنا إلى حدّ ما بـ فيرمير، نرى امرأة شابّة ترتدي ملابس ومجوهرات فاخرة وتتمتّع بأناقة غير عادية وتشيع ملامحها هالة من الاحترام والنبل. نوعية ملابس المرأة توحي بأنها فرنسية. وهي لا تجلس أمام خلفية مسطّحة ومحايدة، وإنما موضوعة في مكان واقعيّ وثلاثيّ الأبعاد ضمن توليف متوازن من الخطوط العمودية والأفقية والقطرية.
المرأة تنظر باتجاه المتلقّي مباشرة وبطريقة مشاكسة، رغم أن نظراتها تخفي أكثر مما تكشف. تعبيرات ونظرات المرأة توحي بأن شيئا أو شخصا ما خارج الإطار استولى على اهتمامها. والتعبيرات الماكرة تعزّزها هيئة العينين اللتين تنظران جانبيّا. وضع المرأة بهذه الطريقة المعمارية الدقيقة أراد من ورائه الرسّام إضفاء لمسة من الديناميكية والحيوية على الصورة.
القبّعة المستطيلة التي تعتمرها يبدو أنها كانت سائدة زمن الرسّام. ومع ذلك يندر وجود مثلها في اللوحات الأخرى التي رُسمت في ذلك العصر.
هذا البورتريه ابتاعته عائلة ميديتشي وضمّته إلى مجموعتها بعد أن أرفقته بسجلّ يصف اللوحة بأنها رسم لرأس سيّدة فرنسية تمّ تنفيذه بالألوان الزيتية. لكنّ السجلّ لا يذكر هويّة المرأة، وإنما يشير فقط إلى أن أهمّية اللوحة تكمن في مضمونها الجماليّ وليس في قيمتها التاريخية.
ولد بيتروس كريستوس في مدينة بارلودوك البلجيكية عام 1410، لكن لا يُعرف أين تلقّى تدريبه ولا أين قضى سنوات دراسته الأولى. ويقال انه زار ايطاليا في بداياته ودرس أعمال رسّاميها العظام وأن بعض زبائنه ممّن اشتروا بعض أعماله كانوا من الايطاليين.
في ما بعد استقرّ الرسّام في مدينة بْرُوج التي كانت مزدهرة اقتصاديا بعد سنوات من الاضطراب السياسي الذي شهدته ما بين عامي 1436 و1440م. كانت بْرُوج وقتها مكانا مفضّلا لإقامة الأمراء والنبلاء ورجال الأعمال المحليين والتجّار الأجانب ورجال المصارف الذين بدءوا في اجتذاب الرسّامين إلى المدينة.
وخلال وقت وجيز برز اسم كريستوس إلى الصدارة باعتباره رسّام بْرُوج الأوّل، خاصّة بعد وفاة فان آيك. وقد تعزّزت مكانته في مجتمع المدينة لدرجة انه كان يُدعى لحضور مناسبات كانت تقتصر عادة على الأمراء والارستقراطيين وعائلات الطبقة الرفيعة.
كان من عادة بيتروس كريستوس أن يضمّن كلّ لوحة من لوحاته علامة خاصّة على شكل قلب إلى جانب توقيعه. ولوحاته الموجودة اليوم لا يتجاوز عددها الثلاثين، خمس منها في متحف المتروبوليتان في نيويورك. لكن هذا البورتريه يظلّ أفضل وأشهر أعماله جميعا. وهو موجود اليوم في احد متاحف برلين.

Monday, February 11, 2013

لوحـات عالميـة – 309

ويستِـرن مـوتيـل
للفنان الأمريكي ادوارد هـوبـر، 1957

يُوصف ادوارد هوبر أحيانا بأنه مثقّف منعزل ومتحفّظ. السنوات العشر الأخيرة من حياته كانت مليئة بالجوائز وبدرجات الدكتوراة الفخرية. في تلك الفترة، كان الفنّ التجريدي يشهد أزهى فترات صعوده. لكنّ هوبر ظلّ محافظا بعناد على واقعيّته.
وفي أعوامه الأخيرة، أصبح السفر أحد موضوعاته المفضّلة. وعلى عكس ما ألفنا رؤيته في لوحاته الأخرى التي تحدّق فيها النساء خارج النوافذ باتجاه ضوء الشمس، فإن المرأة في هذه اللوحة تنظر إلى المتلقّي مباشرة.
رسم الفنّان اللوحة أثناء إقامته في احد الموتيلات في لوس انجيليس. والمرأة الظاهرة فيها هي زوجته جو نيفيسون التي كانت ترافقه أثناء تلك الزيارة. ورغم بساطة التوليف، إلا أن المشهد غامض سيكولوجيّا. النظرة المتأمّلة للمرأة ووضعها المتوتّر يعزّز الإحساس بأن حدثا ما على وشك الوقوع. غرفة الموتيل هي رمز للحياة الحديثة التي ليس لها جذور، وللتنقّل الدائم وعدم الثبات. كما أن الصورة تستذكر اتساع ورحابة مناطق الغرب الأمريكي.
الزوجة تجلس على سرير في غرفتهما بالموتيل. وإلى جانب السرير حقيبتان تَشِيان بأنهما على وشك المغادرة. وفي خارج الغرفة، يظهر الطرف الأمامي لسيّارتهما التي قدما عليها من نيويورك وستعيدهما إلى هناك. السيّارة رُسمت بهذه الهيئة كي توحي بالارتباط الوثيق بينها وبين المرأة. لون السيّارة يتماهى مع الأثاث، وبنطال الرسّام الذي يستقرّ بإهمال على الكرسيّ الأيمن يتوافق لونه مع لون السماء في الخارج. أيضا يظهر في الخلفية خطّ سكّة حديد فارغ ومنظر لطبيعة شاحبة.
كان هوبر يعتقد بأن النساء تعوزهنّ الكفاءة لقيادة السيارة بطريقة آمنة. وكثيرا ما كان يُحبط جهود زوجته في أن تسوق أو تحصل على رخصة قيادة. ومع ذلك كانت تسوق بلا رخصة، وكانت الأمور تنتهي بهما معا إلى المحاكم نتيجة مخالفاتها على الطريق. وكان الزوجان مشهورين بنزاعاتهما الصاخبة حول هذا الأمر والتي كان يتخلّلها أحيانا عنف جسديّ. وأثناء زواجهما، كانت جو تغضب نتيجة شعورها بأن زوجها كان يحاول أن يسيطر عليها وأن يفرض عليها قناعاته الخاصّة.
هذه اللوحة هي انعكاس لذلك النزاع بينهما، كما أنها ترمز إلى رفض الرجال لتطلّعات النساء في المساواة في الأمور المنزلية. وتحت عين الفنّان التهكّمية فإن السيّارة والمرأة متّحدتان معا. المرأة هنا تبدو غاضبة وعازمة على التعارك مع زوجها الرسّام من اجل السيطرة على ذلك الشيء في الخارج الذي يرمز للسلطة.
في لوحات هوبر يبدو البشر صامتين وساكنين ومتجمّدين داخل عوالمهم المنعزلة. والمناطق التي تفصل في ما بينهم ليست مشحونة بالجاذبية أو العاطفة، وإنما باللامبالاة المطلقة. والضوء هو العنصر الذي يبعث في هذه الصور الحياة. كان الفنّان يستخدم الضوء للإيحاء بحالات من التأمّل والاستبطان. تنظر إلى أعماله فتحسّ فيها بضوء الصباح الباكر وبنهار الصيف الحار وبركود الهواء وبنسيم المساء البارد وباقتراب الليل.
الطابع الدراميّ لمناظر هوبر أثار إعجاب العديد من المخرجين السينمائيين مثل الفرد هيتشكوك والمخرج الألماني فيم فيندرز.
لم يكن ادوارد هوبر غزير الإنتاج. وعدد لوحاته يتجاوز بالكاد الثلاثمائة وخمسين لوحة. في الخمسينات، أي عندما كان هو في السبعينات من عمره، كان يرسم خمس لوحات في العام. ونادرا ما تظهر لوحاته في السوق. وأغلى لوحة بيعت له حقّقت 27 مليون دولار عام 2006م.
تزوّج ادوارد هوبر من جوزيفين نيفيسون عام 1942 وهو في الثانية والأربعين. كانت هي أيضا رسّامة ومعلّمة للفنّ. وقد قضت سنواتها معه في الترويج له ولفنّه وفي تشجيعه ومساندته. وتوفّيت بعد رحيله بعشرة أشهر، أي في مارس من عام 1968م. وكانا قد أوصيا قبل وفاتهما بأن تؤول ملكية لوحاتهما إلى متحف ويتني للفنّ الأمريكي.

موضوع ذو صلة: هوبر.. شاعر العزلة