Wednesday, September 07, 2011

لوحات عالميـة - 290

الساروف ذو الأجنحة الستّة
للفنان الروسي ميخائيـل فروبيـل، 1904


هذه حكاية رسّام ظلّ يرسم الملائكة والشياطين طوال حياته. لكنه كان مفتونا أكثر برسم صور الشيطان. وقد صوّره في حالات وأوضاع مختلفة، جالسا وواقفا ومستلقيا على الأرض.. إلى آخره. وفي النهاية وقع هذا الرسّام ضحيّة هواجسه الشيطانية المؤرّقة.
كان أوّل لقاء لـ ميخائيل فروبيل مع الشيطان في إحدى كنائس مدينة كييف الاوكرانية. كان الفنّان وقتها ما يزال في مقتبل العمر. وقد انتُدب، مع آخرين، لمهمّة تزيين سقف الكنيسة بصور لملائكة وشياطين ممّن ورد ذكرهم في النصوص الدينية.
واستعدّ فروبيل لتلك المهمّة بقراءة الكثير من القصص والروايات الدينية القديمة كي يستنبط منها الأوصاف المناسبة التي تعينه على رسم الموضوع.
فروبيل غير معروف كثيرا خارج روسيا. لكن الروس يحترمونه كثيرا ويعجبون برمزيته ويعتبرونه من آباء الفنّ الحديث في روسيا، بل وأحد رموزهم الثقافية العظيمة.
ولا شكّ في أن اكبر انجازاته هو سلسلة لوحات الشيطان التي بدأ في رسمها وهو في سنّ مبكّرة.
من أشهر لوحات تلك السلسلة هذه اللوحة التي استمدّ الرسّام موضوعها من قصيدة للشاعر الكسندر بوشكين. والقصيدة تحكي عن قصّة شاعر يمشي في الصحراء. وهناك يلتقي ساروفاً "وهو نوع من الملائكة" على هيئة أنثى بستّة أجنحة. ويقوم الملاك بالمسح على عيني الشاعر وأذنيه وفمه كي يفتح له غموض العالم ويُطلعه على كلّ ما هو خافٍ عن أعين البشر. ثم لا يلبث الملاك أن يستلّ قلب الشاعر من مكانه ويستبدله بجمرة محترقة. وبعدها يسمع الشاعر صوت الله الذي يأمره بأن ينطلق في الآفاق ليشعل أرواح البشر بالكلمات.
في اللوحة يرسم فروبيل الملاك بملامح أنثى تمسك بيدها اليمنى سيفا وبالأخرى قنديلا ملوّنا. وعندما تنظر إلى اللوحة لأوّل مرّة، سرعان ما تتخيّل عالما مشيّدا من الحجارة الثمينة الملوّنة أو من قطع الألماس المكسورة وسط هالة من الغموض.
ضربات الفرشاة تخلق خطوطا وأشكالا متكسّرة تعطي انطباعا عن صورة شبحية. النسيج وخطّة الألوان في اللوحة تشيان باهتمام فروبيل بالفنون الشرقية، وخاصّة السجّاد الفارسي. وهو يستخدم أشكالا مألوفة ويخلق منها صورا غير متوقّعة. وفي النهاية يظهر عالم متغيّر ومختلف تماما، بحيث يتحوّل الواقع إلى فانتازيا.
ولد ميخائيل فروبيل عام 1856 في اومسك بـ سيبيريا. في ما بعد، درس القانون في جامعة سانت بيترسبيرغ. وأثناء دراسته، كان يتلقّى دروسا في الرسم. ثم سجّل في أكاديمية الفنون التي قضى فيها أربع سنوات.
في مرحلة تالية، انتقل الرسّام إلى موسكو حيث حظي برعاية احد الأثرياء الذي روّج لاسمه وعرّفه على بعض العائلات النبيلة والموسرة. ثم تزوّج الرسّام من إحدى مغنّيات الأوبرا وعمل معها في مجال تصميم أزياء وديكور المسرحيات.
في لوحة أخرى من لوحات هذه السلسلة بعنوان "الشيطان جالساً"، يرسم فروبيل الشيطان من وحي قصيدة للشاعر ميخائيل ليرمونتوف. القصيدة تصوّر الشيطان كملاك سقط من عليائه. وعندما يهبط إلى الأرض يقع في هوى امرأة جميلة، لكنها مرتبطة برجل آخر. فيقوم الشيطان بقتل غريمه ويتعقّب محبوبته. وعندما يتودّد إليها تموت في أحضانه. ثم تصعد روحها إلى السماء في أحضان ملاك، بينما يُترك الشيطان لوحده على الأرض.
فروبيل رسم شيطان ليرمونتوف جالسا، متأمّلا وحزينا، على تلّة مرتفعة وقت الغروب. الشيطان يبدو هنا وكأنه ملّ من أفعال الشرّ. ومع ذلك، ما يزال الخير شيئا غريبا بالنسبة له. جسده القويّ والمعافى يبدو كبيرا بالنسبة لمساحة اللوحة. وهو يظهر بوجه وسيم وملامح تنطق بالأسى، بينما يشبك يديه ببعضهما.
شياطين فروبيل هي مزيج من المفارقات والمتناقضات: الجمال، القوّة، اليأس والتوق. كما أنها محاطة دائما بعالم رائع وجميل وبارد. وهي قد تكون رمزا لهذا العصر، حيث لا ليل ولا نهار، لا ظلمة ولا نور.
فكرة الشيطان كانت رائجة كثيرا في أدب وفنّ الرمزيين. كانوا ينظرون إلى الشيطان باعتباره قوّة وسيطة بين العالم الطبيعي والميتافيزيقي. وهو عندهم روح عظيمة وقويّة. كما انه ابديّ وخالد وليس له نظير أو شبيه. ومأساة الشيطان هي، بمعنى ما، مأساة الإنسان نفسه الذي يحتجّ على انهيار أوهامه الرومانسية وأحلامه الطوباوية.
ابتداءَ من العام 1906، تدهورت حالة فروبيل الصحّية وبدأ يعاني من بوادر انهيار عقلي حادّ. كان قد أصبح مهجوسا على ما يبدو بشياطينه الخاصّين، فاُدخِل إلى إحدى المصحّات النفسية. لكنه كان ما يزال قادرا على أن يرسم المزيد من اللوحات عن موضوعه المفضّل.
وقبيل وفاته، رسم آخر صوره له عن الشيطان بعنوان "الشيطان مُنهَكاً". في هذه اللوحة لا يظهر من الشيطان سوى رأسه وهو يطلّ من قمّة جبل بشعر أشعث ووجه كالح ونظرات ناريّة. أجنحته متكسّرة وعيناه تحترقان بالثورة وروحه واهنة. ملامح هذا الشيطان مليئة بعذاب لا يوصف ولا يمكن تحمّله. وقد وصف النقاد اللوحة بأنها تعبير عن روح الرسّام المتشكّكة والمتمرّدة وعن تعطّشه للحرّية وللمعرفة.
بعد أن أتم فروبيل رسم لوحته الأخيرة، ازدادت عليه وطأة المرض فكُفّ بصره وضَعُفت صلته بالواقع.
وبعد أشهر قليلة، أي في ابريل من عام 1910م، توفّي عن عمر يناهز الرابعة والخمسين.