Friday, September 02, 2011

لوحات عالميـة - 289

الكيمـونـو البرتقـالي
للفنّان الايطالي جيوسيـبي دي نيتـيس، 1867


لا يُعرف عن هذا الرسّام الايطالي سوى النزر اليسير. لكنّ الشيء المؤكّد انه كان يحبّ باريس كثيرا. كما كان حريصا على أن لا يصوّر سوى اللحظات السعيدة والعابرة.
كان جيوسيبي دي نيتيس أهم رسّام ايطالي عاش في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كان معاصرا لـ جيوفاني بولديني وصديقا لكلّ من كابييوت ومانيه وديغا.
وقد اشتهر بتصويره لمظاهر الحياة الحديثة في باريس في ذلك الوقت. كما عُرف عنه اهتمامه بالأناقة وبالموضة.
لوحته هنا تذكّر برسومات ديلاكروا عن الشرق من حيث ثراء الألوان ووضوح الخطوط. المرأة في اللوحة تجلس في وضع اتكاء وتعطي ظهرها للناظر وتنظر إلى الوراء كما لو كانت بانتظار شخص ما.
والجزء الأهم في اللوحة هو اللباس الذي ترتديه، وهو عبارة عن كيمونو ياباني بألوان برتقالية ساطعة ونقوش جميلة تثير إحساسا بالدفء وبالأنوثة.
المرأة الظاهرة في الصورة هي ليونتين غروفيل، زوجة الرسّام وملهمته. وقد رسمها في العديد من لوحاته، أحيانا لوحدها وأحيانا بمعيّة ابنهما.
كان دي نيتيس شغوفا بالرسم الياباني. وكان يشاركه هذا الشغف كلّ من مانيه وديغا. والكثير من لوحاته لا تخلو من عنصر من الفنّ الياباني كالمراوح والنقوش والأزهار البيضاء والمطر والثلج وخلافه. وقد نقل هذا الافتتان بالرسم الياباني إلى منزله الذي حرص على تزيينه بنقوش وتصاوير ذات ألوان دافئة مستمدّة من فنون اليابان.
دي نيتيس كان يمزج في أعماله بين الواقعية والانطباعية والرسم الياباني. هذا المزج بين مدارس مختلفة ربّما يشير إلى أنه لم يتمكّن من العثور على أسلوبه الخاصّ في الرسم.
ولد جيوسيبي دي نيتيس في برشلونة عام 1846 لعائلة ثريّة من مُلاك الأراضي. وفي ما بعد درس الرسم في أكاديمية الفنون في نابولي وتعلّم على يد الرسّام جيوفاني كالو.
وفي كلّ أعماله، كان دي نيتيس يسعى إلى تحرير رسم الطبيعة من أيّ ارتباطات تاريخية أو أدبية. كما كان ينفر من التعليم الرسمي، خاصّة بعد أن اكتشف حرية الرسم من الطبيعة مباشرة.
في مرحلة تالية انتقل الفنّان إلى باريس. وفيها ربطته صداقة قويّة مع إدغار ديغا الذي كان معروفا بقربه من الرسّامين الايطاليين الذين كانوا يعيشون في باريس في ذلك الوقت.
وفي ما بعد تعرّف إلى الناقد والكاتب إدمون دو غونكور الذي ارتبط اسمه بالجائزة الأدبية المشهورة. وقد قدّمه غونكور إلى الأميرة ماتيلدا بونابرت وهي امرأة ارستقراطية عُرفت بكونها موسيقية ورسّامة. وفي العام 1883 رسم دي نيتيس ماتيلدا في صالونها بصحبة عدد من ضيوفها. وسجّل في هذه اللوحة بعض سمات الموضة التي كانت شائعة آنذاك.
الحياة الباريسية بحفلاتها وصخبها كانت احد مواضيع الرسّام المفضّلة. ويمكن القول إن الكثير من لوحاته تُعتبر تسجيلا صوريا لتاريخ الموضة واللباس في عصره.
في باريس، أصبح منزل دي نيتيس ملتقى الفنّانين والأدباء ونخبة المجتمع الباريسي، بالإضافة إلى المغتربين الايطاليين في فرنسا.
وقد زار الرسّام لندن مرارا ورسم فيها عدّة لوحات انطباعية تذكّر بطبيعة تيرنر. كما تعرّف هناك على الرسّام جيمس تيسو.
كان دي نيتيس فنّانا حديثا يقدّر الحياة في الحواضر ويحترم الثقافات الأجنبية والغريبة. كما كان أيضا رسّام طبيعة موهوبا. وقد نقل إلى مناظره أضواء بلده ايطاليا وضباب لندن وأجواء باريس النديّة.
صوره المدهشة لضفّتي السين والجسور التي تعلو النهر تشي بحبّه للبحر والسماء الواسعة والأفق الذي لا تحدّه حدود وبمعرفته الواسعة بطبيعة الألوان وأسرارها الكامنة.
في آخر لوحاته التي أنجزها قبيل وفاته، يرسم دي نيتيس زوجته وابنهما الوحيد وهما يتناولان العشاء في حديقة منزلهم في باريس. المشهد الذي تصوّره اللوحة يغمره الضوء ويثير شعورا بالألفة والسكينة. غير أن الفنّان اختار أن يرسم مقعدا ثالثا بجانب المائدة تركه فارغا، كما لو انه تذكير بشخص غائب.
والغريب أن الرسّام توفّي بعد ذلك بأشهر قليلة بعد إصابته بنوبة قلبية مفاجئة عن عمر لا يتجاوز الثامنة والثلاثين.
كان جيوسيبي دي نيتيس فنّانا محبّا للجمال والأناقة والأضواء. كان يرسم برقّة بالغة. ويمكن القول أن في لوحاته شيئا من قوّة تيرنر ورقّة مونيه وجمال كورو ودقّة مانيه.
كان من عادته أن يوزّع وقته بين باريس ونابولي ولندن. لكن ممّا لا شكّ فيه أن باريس هي التي صنعت مجده وشهرته مثل كثير من الفنّانين.

Thursday, September 01, 2011

لوحات عالميـة - 288

الأصدقاء الثلاثة
للفنّان الصيني دون هونـغ واي، 1989


لأوّل وهلة، قد يظنّ الناظر إلى هذه الصورة أنها لوحة مرسومة بالألوان المائية. لكنّها في الواقع صورة فوتوغرافية. وما يجعلها فريدة من نوعها هو الأسلوب التقني المبتكر الذي اتبعه المصوّر في معالجتها.
هذه الصورة وغيرها من صور دون هونغ واي منتشرة على نطاق واسع في الكثير من المواقع على الانترنت لدرجة انه يمكن اعتبارها ظاهرة. ومن الواضح أن المصوّر يحاكي في لقطاته الأسلوب التقليدي الصيني في رسم اللوحات التي تصوّر مناظر طبيعية. كما أنه وظّف فيها بعض الموتيفات التي تظهر عادة في الرسم الكلاسيكي الصيني مثل طيور الماء وأشجار الصنوبر والجسور والأنهار والبحيرات والجبال التي يغطّيها الضباب.
من المعروف أن الرسم الكلاسيكي الصيني يحتفي بالطبيعة وعناصرها إلى درجة التقديس. لذا نرى تلك الرسومات مليئة بصور القوارب والجبال والأنهار والغرانيق والنوارس والنمور والجياد البرّية والنسور وأزهار اللوتس وأشجار الخوخ والصنوبر.
وما يجعل صور واي خاصّة ومتفرّدة هو التكنيك الذي يوظّفه في إخراجها. فهو يستخدم أكثر من صورة سالبة "نيغاتيف" ويعمل على كلّ واحدة على حدة. وفي النهاية يقوم بدمجها معا بطريقة تنتج صورة مونوكروميّة "أي ذات لون واحد"، لكنها جميلة ومعبّرة وتستثير الذكريات والمشاعر.
دون واي سبق له وأن درس على يد المصوّر الصيني الأشهر شِن صن لونغ الذي توفّي في تسعينات القرن الماضي عن عمر ناهز المائة عام. تلك التجربة أفادته كثيرا وفتحت أمامه آفاقا جديدة في معرفة أسرار وخبايا الإبداع في التصوير الضوئي.
في هذه الصورة يلتقط المصوّر مشهدا هادئا من الريف الصيني هو عبارة عن بحيرة يقوم على احد أطرافها جسر خشبي ويسبح في مياهها ثلاثة من طيور الماء تبدو منشغلة في التقاط الأسماك الصغيرة.
منظر التلال التي يغطّيها الضباب في الخلفية، بالإضافة إلى خلوّ هذه الصورة من أيّ حضور للإنسان، يذكّرنا مرّة أخرى باللوحات الصينية القديمة. وبعض تلك اللوحات هي عبارة عن مناظر بانورامية لطبيعة تظهر فيها سهول فسيحة وبحيرات واسعة وغيوم كثيفة وجبال ضبابية تحجب وجود الإنسان أو تختزله إلى مجرّد نقطة شبحية وضائعة وسط الحضور المهيب والطاغي للطبيعة.
في هذه الصورة تمكّن الفنّان من التقاط منظر شاعري عن عالم قائم بذاته، لكن بأقلّ قدر من التفاصيل. والمنظر يوصل إحساسا انطباعيا بالجوّ، كما أنه يوحي بمرور الزمن دون أن يكون عن زمن محدّد بالضرورة.
ولد دونغ هونغ واي في غوانتزو بالصين عام 1929م. كان الابن الأصغر لعائلة فقيرة تضمّ خمسة وعشرين طفلا. وبعد موت والديه، سافر ليعمل في سايغون بـ فيتنام. هناك عمل في احد استديوهات التصوير وتعلّم التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي. ثم درس الفنّ في جامعة فيتنام وأصبح بعد تخرّجه مدرسّا للفنّ فيها.
وأثناء إقامته في سايغون، عمل فترة مع المصوّر الفيتنامي المشهور نك اوت الذي نال جائزة البوليتزر عام 1972 عن لقطته الايقونية التي صوّر فيها أطفالا يهربون من جحيم قنابل النابالم التي استهدفت إحدى القرى الفيتنامية.
في ما بعد، اضطرّ دون واي إلى مغادرة فيتنام مع ظهور بوادر النزاع الذي نشب وقتها بين كلّ من فيتنام والصين. كانت فيتنام قد اتخذت إجراءات مشدّدة للتضييق على الجالية الصينية التي تعيش في البلاد. وقد وجد دون واي نفسه واحدا من ملايين الصينيين الذين أصبحوا يُعرفون بسكّان القوارب ممّن اضطرّوا للهرب من فيتنام في أواخر سبعينات القرن الماضي.
فنّانو الطبيعة الصينيون عُرف عنهم منذ القدم تقديسهم للطبيعة كجزء من التراث والحضارة الصينية. وقد اجتهد الفنانون الصينيون دائما على أن لا تكون أعمالهم مجرّد تسجيل للطبيعة، بل سعوا من خلال تلك الأعمال لأن يتوحّدوا معها ويسبروا أغوارها.
كانت الطاوية مثلا تعتقد أن على الإنسان أن يفهم الطبيعة ويصادقها، لا أن يغزوها ويدنّسها ويبدّد مواردها. وكونفوشيوس كان يرى أن تحقيق التناغم مع العالم مشروط بأن يتعايش الإنسان مع الطبيعة بسلام وانسجام وأن يفهمها وأن يبحث عن المعرفة من خلالها. ومما يُؤثر عنه أيضا قوله أن الإنسان الحكيم يجد متعته في الماء والرجل التقي يجدها في الجبال.
كان الفنّان الصيني القديم يلاحظ سلوك الحيوانات والطيور ويتفاعل مع الأزهار والنباتات ويراقب تغيّر الطبيعة مع تغيّر الفصول. ولم يكن يرسم إلا بعد أن يكون قد تماهى مع كلّ هذه العناصر واستوعبها جيّدا. لذا ليس من المستغرب أن تتضمّن الرسوم الكلاسيكية الصينية بعدا روحيا بالإضافة إلى خصائصها الشعرية والزخرفية.
في هذه الصورة، كما في بقيّة صوره الأخرى، لم ينس دونغ واي أن يضمّنها كتابة بالأحرف الصينية التي تتميّز بجمالياتها الزخرفية. وفي هذا مضاهاة مع احد التقاليد الصينية القديمة في مزج ثلاثة أشكال مختلفة من الفنّ، هي الشعر والخط والرسم، على نفس رقعة الورق. وكان هناك اعتقاد بأن هذا المزج يسمح للفنان أن يعبّر عن نفسه بطريقة أكثر وضوحا وعمقا.
غادر دون واي فيتنام على متن قارب صغير. وانتهى به المطاف في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة التي عاش فيها السنوات العشر الأخيرة من حياته.
وفي أمريكا بدأ اسمه يذيع ويشتهر. وسرعان ما اعتُرف بموهبته ونالت صوره عددا من الجوائز العالمية. كما وجدت طريقها إلى بعض أشهر الغاليريهات والمتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
دون واي استطاع من خلال صوره الرومانسية الداكنة والأحادية الألوان أن يحتفظ لنفسه بمكانة بارزة في مجتمع التصوير الفوتوغرافي العالمي. وقد ظلّ محافظا على روح الفنّ الصيني في أعماله حتى وفاته عام 2004 في سان فرانسيسكو عن عمر ناهز الرابعة والسبعين بعد جراحة فاشلة في القلب.
وبعد وفاته، تمّ إحراق رفاته ولم تُقم له جنازة تذكارية بناءً على طلبه.

Monday, August 29, 2011

لوحات عالميـة - 287

تمثـال بـوليـن بونـابـرت
للفنّان الايطالي انتونيو كانوفا، 1808


يُعرف هذا التمثال أحيانا بـ فينوس المنتصرة. وهو يصوّر بولين شقيقة نابليون بونابرت وهي تتمدّد نصف عارية على أريكة. والتمثال هو احد أشهر أعمال انتونيو كانوفا. وهو يجسّد التقاليد الفنّية الرومانية القديمة في تصوير الأشخاص على هيئة آلهة. كما انه يُعتبر نقطة تحوّل في مفهوم الجمال النيوكلاسيكي.
وقد كلّف كانوفا بنحته زوج بولين الأمير الايطالي كاميللو بورغيزي في مستهلّ القرن التاسع عشر. ونُفّذ التمثال في روما واستغرق العمل عليه ثلاث سنوات.
في البداية، خَيّر كانوفا بولين بين أن تأخذ في التمثال هيئة دايانا إلهة الصيد، أو مينيرفا إلهة الذكاء، أو فينوس إلهة الحبّ. فاختارت الأخيرة.
وتظهر في التمثال وهي نصف عارية ومستلقية على أريكة، بينما تمسك في يدها اليسرى بتفّاحة. وفي هذه الجزئية استحضار لصورة افرودايت أو فينوس المنتصرة في أسطورة حكم باريس. والتفّاحة تذكير بأن باريس بطل طروادة الشابّ اختار في النهاية، طبقا للأسطورة، أن يهدي التفّاحة الذهبية إلى فينوس باعتبارها أجمل امرأة على الأرض مفضّلا إيّاها على كلّ من أثينا و هيرا. وقد كأفاته فينوس على اختياره بأن سمحت له بإغراء هيلين أميرة طروادة، مع ما نتج عن ذلك في ما بعد من حرب طويلة ودامية.
لذا ليس من الصعب أن نرى في هذا التمثال تعبيرا قويّا عن ثقة هذه المرأة، أي بولين بونابرت، بجمالها وسطوتها.
كانوفا نفسه كان مفتونا بشخصية فينوس، على الرغم من أن مجموعته الكاملة من الأعمال النحتية تتضمّن تصويرا لعدد من الشخصيات الإغريقية الأسطورية الأخرى.
في ذلك الوقت، كانت التماثيل العارية شيئا غير مألوف. وكان الأشخاص من ذوي المكانة الاجتماعية العالية يفضّلون الظهور في تماثيل مغطّاة بالقماش.
لكن يبدو أن بولين لم تأبه كثيرا بالضرر الذي قد يلحق بسمعتها جرّاء تصويرها نصف عارية. ولا يُعرف على وجه التأكيد ما إذا كانت جلست أمام كانوفا عارية من اجل التمثال. لكن من الواضح أن الرأس تمّ نحته بطريقة واقعية إلى حدّ ما. أما بقيّة الجسد فيُرجّح انه نُحت بحيث يضاهي شكل الأنثى المثالي كما يظهر عادة في الأعمال الكلاسيكية.
بنهاية القرن التاسع عشر، كانت بولين بونابرت تُوصف بأنها أجمل امرأة في أوربّا وإحدى اقلّ النساء عفافا وأكثرهن تحرّرا.
وبفضل مكانة عائلتها وعلاقاتها القوّية، أصبح الفنّانون يتسابقون إلى رسمها ونحت صورها.
تزوّجت بولين بونابرت من الأمير كاميللو بورغيزي في أغسطس من عام 1803م. وكانت قد تعرّفت عليه أثناء زواجها الأوّل. كان شابّا اسمر لا يتجاوز عمره الثلاثين. وكان تعليمه بسيطا. بولين أيضا لم تكن متعلّمة. لذا كان هناك عامل مشترك يجمع بين الاثنين.
عائلة بونابرت تعمّدت الإيحاء بأن الزواج كان فكرة عائلة بورغيزي. ولم يصدّق كاميللو أن حلمه يمكن أن يتحقّق عندما قبلت بولين عرضه بالزواج. والغريب أن نابليون كان الشخص الوحيد الذي وقف في البداية ضدّ زواجهما.
وقد تزوّج الاثنان سرّا دون علم نابليون. وعندما بلغه الخبر غضب غضبا شديدا وأرسل إلى شقيقته من يخبرها بأن تقطع عنه زياراتها وأن تحافظ على حشمتها ووقارها مراعاة لسمعة العائلة.
لكن غضبه لم يدم طويلا. فعلى الرغم ممّا حصل، كانت بولين اقرب شقيقات نابليون الثلاث إلى قلبه. واستمرّ في مراسلتها وحثّها على أن تتصرّف بطريقة ناضجة ومعقولة.
كان كاميللو بورغيزي وقتها أغنى رجل في ايطاليا. وقد تزوّج بولين بعد انقضاء سنة على وفاة زوجها الأوّل الذي ترك لها طفلا.
وبعد أن انتقل الزوجان إلى روما، كلّف بورغيزي كانوفا بأن ينحت لـ بولين تمثالا من الرخام تعبيرا عن حبّه لها وإعجابه بها.
غير أن ولع بولين بالحفلات الليلية الصاخبة لازمها حتى بعد أن انتقلت مع زوجها إلى ايطاليا، الأمر الذي أزعج بورغيزي كثيرا ودفعه إلى إجبارها على ملازمة المنزل.
لكن ذلك لم يكبح جموحها وتوقها إلى حياة التحرّر والانطلاق. وهي لم تكن فقط مغرمة بملاحقة الرجال وإنما أيضا بشراء الملابس والمجوهرات النفيسة التي تبرز أكثر جمالها الاحتفالي.
في روما، لم تسر الأحوال على ما يرام بين الزوجين. بدأت بولين تبدي احتقارها لـ كاميللو وتنعته بالمخصي وتتأسّف على فقدان زوجها الأوّل. ولم تتوقّف عن إقامة الحفلات الماجنة والعلاقات الغرامية إمعانا منها في إذلال زوجها وإهانته.
المفارقة هي انه عندما أتمّ كانوفا نحت التمثال، كان كلّ من بولين وزوجها يعيشان منفصلين عن بعضهما في تورين. كان كاميللو وقتها يشغل وظيفة حاكم المدينة بعد أن عيّنه نابليون في ذلك المنصب.
عند الانتهاء من التمثال، نُقل إلى منزل عائلة الزوج. وبعد موت نابليون، نُقل التمثال إلى روما، وبالتحديد إلى غاليري بورغيزي حيث بقي فيه إلى اليوم.
وقد خُصّصت له غرفة بالغاليري تزيّن سقفها نقوش زيتية رسمها الفنّان دومينيكو دي انغيليس عام 1779 واستوحاها من نقش مشهور في فيللا ميديتشي.
من أهمّ خصائص هذا التمثال أن قاعدته الخشبية تبدو مسجّاة مثل النعش. وفي احد الأوقات كانت القاعدة تضمّ جهازا يجعل التمثال يتحرّك بطريقة دائرية كي يتمكّن الناظر من ملاحظة التفاصيل من جميع الزوايا دون أن يتحرّك من مكانه. القاعدة الدوّارة تمثّل عكسا لطبيعة العلاقة ما بين المتلقّي والعمل الفنّي. فالتمثال في هذه الحالة هو الذي يتحّرك بينما يظلّ المتلقّي أو الناظر ساكناً.
انتونيو كانوفا يعتبر أشهر نحّات ايطالي ظهر في الحقبة النيوكلاسيكية. وقد عمل مع الملوك والباباوات ورجال المصارف والأمراء الروس. لكن ارتباطه بـ نابليون كان اكبر. فقد صوّره مرارا. بل إن نابليون اصطفاه لنفسه في النهاية.
وعندما فرغ من نحت تمثال بولين، كان الناس يأتون للنظر إلى التمثال على ضوء الشموع. كان وهجه مُشعّا، ليس بسبب نوعية الرخام العالي الجودة فقط، وإنما أيضا بسبب أسطحه الناعمة والمصقولة بعناية.
أما فينوس أو بولين بونابرت، فعلى الرغم من كثرة فضائحها، إلا أنها ظلّت وفيّة على الدوام لأخيها نابليون. كانت شاهدة على انتصاراته العديدة، وأحيانا مشاركة فيها. وعندما تغيّرت حظوظه وسقط من عليائه بعد هزيمته في ووترلو، كانت بولين الوحيدة من بين شقيقاته التي لحقت به إلى منفاه في جزيرة سينت ايلينا حيث ظلّت تلازمه هناك إلى أن توفّي.
تمثال فينوس المنتصرة يُعتبر اليوم واسطة العقد بين مجموعة الأعمال الفنّية التي يضمّها غاليري بورغيزي. والغاليري نفسه يُعدّ احد أهمّ المتاحف في العالم بالنظر إلى ما يحتويه من كنوز فنّية عظيمة ونادرة من العالم القديم ومن عصري النهضة والباروك، ومن بينها أعمال لـ رافائيل وتيشيان وكارافاجيو وبيرنيني ودافنشي وروبنز وغيرهم.
ومؤخّّرا، احتفل الغاليري بذكرى مرور قرنين ونصف على مولد انتونيو كانوفا وبمرور مائتي عام على انجازه هذا التمثال. وقد وفّرت المناسبة فرصة للنقّاد للحديث عن هذا التمثال وتناول العلاقة التي كانت تربط النحّات بكلّ من عائلتي بورغيزي وبونابرت.