Tuesday, December 28, 2010

لوحات عالميـة – 275

فتـيات علـى الجسـر
للفنان النرويجي إدفـارد مونـك، 1902

ما أن يُذكر اسم رسّام ما حتى تقفز إلى الذهن إحدى لوحاته باعتبارها الأشهر والأكثر رواجا. فـ دافنشي غالبا ما يرد اسمه مقرونا بـ الموناليزا. ومانيه بـ اوليمبيا. وكليمت بـ القبلة. وادوارد هوبر بـ صقور الليل. وبول سيزان بـ لاعبي الورق. وويسلر بلوحته عن والدته. وماتيس بـ العارية الزرقاء. وهكذا..
وما يحدث في غالب الأحيان هو أن اللوحة التي تعارف الناس على أنها الأكثر شهرة قد تحجب أعمالا أخرى للرسّام ربّما لا تقلّ عن تلك اللوحة إبداعا وتميّزا.
ادفارد مونك هو الآخر لا يتذكّره الناس إلا من خلال لوحته الأشهر "الصرخة". ومع ذلك، هناك من مؤرّخي الفنّ من يتساءلون عن السبب في أن "الصرخة" أصبحت أشهر لوحة لـ مونك، في حين أن لوحته هنا لا تقلّ عنها، إن لم تتفوّق عليها، من حيث جمالها وقوّتها التعبيرية.
"فتيات على الجسر" هي إحدى أشهر لوحات مونك. وقد رسمها أثناء إحدى اشدّ الفترات معاناة في حياته. غير أن تلك الفترة بالذات شهدت ولادة مجموعة من أكثر لوحاته نضوجا وعمقا. الرمزية القويّة في هذه اللوحة لها علاقة بلوحة مونك الأخرى رقصة الحياة. وهو من خلال هذين العملين كان يحاول استكشاف الأفكار التي تتناول مراحل تطوّر المرأة من النضوج إلى الشيخوخة فالموت.
كان إدفارد مونك يرسم ما يمكن تسميته باللوحات المزاجية أو الانفعالية. وكانت تلك سمة خاصّة بفنّ شمال أوربّا حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد تخلّى مونك عن الرسم في الهواء الطلق الذي كان مهيمنا على لوحات الطبيعة النرويجية، وفضّل أن يرسم الطبيعة وفق رؤية مشحونة انفعاليا وعاطفيا.
في هذه اللوحة اخذ الرسّام منظرا كان قد رآه من قبل في منتجع اوسكوشراند الصيفي يشبه المكان الذي رسم منه "الصرخة". وقد عاد إلى نفس المكان واستخدم القوّة التعبيرية للألوان والخطوط كي يحصل على لوحة أخرى ذات قوّة غنائية وشعرية كبيرة.
كان مونك يعرف المنطقة جيّدا بشاطئها الجميل وأشجار الزيزفون الوارفة فيها وأسوارها البيضاء التي تتوهّج مثل المصابيح في ليالي الصيف.
وقد سبق له وأن قضى عددا من عطلاته هناك، واستطاع أن يغمر نفسه في المكان بحيث تحوّل إلى انعكاس لتأمّلاته الداخلية الخاصّة.
في اللوحة يرسم الفنّان مجموعة من الفتيات يرتدين ملابس خضراء وحمراء وبيضاء وهنّ يقفن على جسر. والسياج الخشبي الذي يستندن إليه يمتدّ إلى خلفية المنظر حيث يقوم بيت صغير تنهض على احد أطرافه شجرة زيزفون ضخمة تظهر انعكاساتها في مياه النهر إلى جوارها على شكل خطوط متماوجة.
ملامح وجوه النساء غير واضحة. وهذا مؤشّر آخر على أن لوحات مونك لا تحكي قصصا بل تثير انفعالات وأمزجة متباينة. وظاهريا اللوحة تتحدث عن الطبيعة. لكنّها في الحقيقة تقود الناظر إلى طبيعة داخلية من المشاعر والانفعالات. وضربات الفرشاة القوّية والطلاء السميك يضيفان غموضا أكثر إلى الجوّ الانفعالي للوحة.
الجسم الدائري الأصفر الصغير الذي وضعه مونك في سماء اللوحة إلى أقصى اليسار ظلّ هو الآخر مثارا للجدل والتكهّنات. البعض قال انه شمس منتصف الليل. والبعض الآخر ذهب إلى انه قمر يوشك على الغروب. وثمّة من تساءل عن سرّ غياب انعكاس ضوء هذا القمر في مياه النهر.
كان مونك يتحدّث كثيرا عن الضوء الغامض للقمر في ليالي شمال أوربّا. وقد رسم الضوء الخافت هنا أيضا، كأنّما يحاول من خلاله أن ينزع عن الأشياء طابعها الفيزيائي ويضفي عليها معاني وسمات روحية. وقد يكون الضوء الغامض كناية عن ذكريات توشك أن تغرب وتتلاشى.
هناك أيضا شيء ما نبيل في طريق اختيار مونك للألوان. حتى الألوان الساطعة عادة كالأصفر والأخضر والأحمر والبرتقالي تبدو هنا مخفّفة وفاتحة، ما يضفي على اللوحة جوّا من الدفء الممزوج بشيء من الحنين.
النقّاد المعاصرون امتدحوا هذه اللوحة باعتبارها أكثر أعمال الفنّان نضجا. وهناك من وصفها بأنها طبيعة للخلاص ورغبة في العودة إلى عالم نظيف وصاف لا يسكنه سوى الأبرياء. كما قوبلت بحماس كبير في برلين عندما عرضها الرسّام هناك لأوّل مرّة.
وبالنظر إلى النجاح الكبير الذي حققته، عاد مونك إلى فكرتها مرارا ورسم منها على امتداد ثلاثين عاما 12 لوحة تحمل جميعها نفس العنوان. الغريب أن الأشجار والسياج والجسر والبيوت التي تظهر في اللوحة ما تزال إلى اليوم على حالها عندما رسمها الفنّان قبل أكثر من مائة عام.

Wednesday, December 22, 2010

لوحات عالميـة – 274

الحقـل المحـروث
للفنان الاسباني خـوان مِيـرو، 1924

كان خوان ميرو احد أشهر الرسّامين السورياليين والتجريديين الإسبان في القرن العشرين. وقد عُرف بمشاهده ذات الطبيعة الطفولية والحالمة التي تتفجّر بالألوان والأشكال الجميلة.
وقد اختار أن يرسم هنا منظرا للمزرعة التي كانت تمتلكها عائلته في مقاطعة كاتالونيا. وعنوان اللوحة هو استعارة شعرية أراد ميرو من خلالها أن يعبّر عن نظرته المثالية لوطنه.
الجمال والفانتازيا اللذان يميّزان لوحات ميرو لا ينتميان لعالم الواقع. غير انه كان يجد دائما الإلهام في حبّه العميق لاسبانيا كما يبدو واضحا في بعض لوحاته المهمّة ومنها هذه اللوحة.
الأيقونات في هذا العمل كثيرة ومعقّدة. وقد اعتمد فيها على مصادر شتّى. وهي شهادة على اهتمام الرسّام بميراثه الفنّي الطويل.
الألوان الباردة والمتباينة تذكّر بألوان الجداريات الرومانية.
والحيوانات المتعدّدة الألوان استلهمها من أسلوب التطريز الاسباني في القرون الوسطى والذي وجد طريقه في ما بعد إلى أعمال السيراميك التي كان ميرو يجمعها ويحتفظ ببعضها في محترفه.
وبعض الأشكال الأخرى في الصورة استوحاها من رسومات كهوف ما قبل التاريخ التي رآها في بعض أنحاء اسبانيا.
العين التي تظهر في أعلى الشجرة الكبيرة إلى اليمين لها أصل في الفنّ المسيحي القديم. إذ جرت العادة أن تُرسم أجنحة الملائكة بحيث تتخلّلها عيون صغيرة وكثيرة. هذه العين، مع الأذن الكبيرة المثبّتة بجذع نفس الشجرة، تعكسان إيمان الرسّام بأن كلّ شيء في الطبيعة له روح وحياة خاصّة به.
"الحقل المحروث" تُعتبر أولى محاولات ميرو في الرسم السوريالي. وهي تكشف عن خيال الرسّام المجنّح من خلال محاولته جمع كل هذه الأشكال البشرية والحيوانية والنباتية في مكان واحد.
غير أن للوحة معنى سياسيا أيضا. فقد رسم فيها عَلَمَي فرنسا واسبانيا، وأضاف إليهما علما ثالثا هو علم كاتالونيا التي كانت تسعى في ذلك الوقت للانفصال عن الوطن الأمّ اسبانيا. وقد أراد من وراء تضمينه علَمها في الصورة إعلان مناصرته الواضحة للقضيّة الكاتالونية.
ولد خوان ميرو في برشلونة في نهاية القرن قبل الماضي لأبوين رسّامين. وقد نشأ في كاتالونيا التي كانت تشتهر بجمال طبيعتها وتقاليدها الفنّية العريقة، ومن ثمّ أصبحت بالنسبة له مصدر الهام أساسي لأعماله.
وقد تعلّم الرسم على يد فنّان يُدعى خوسيه باسكو علّمه تطويع الألوان ونمّى في نفسه حبّ النحت.
وفي ما بعد تعلّم في أكاديمية برشلونة. وبعد تخرّجه منها بدأ مزاولة الرسم. وكانت تغلب على أعماله الأولى النزعات الوحشية والتعبيرية. وفي مرحلة تالية أعجب بالسورياليين وبدأ يجرّب أساليبهم.
بعض رسومات ميرو يبدو فيها واضحا عشقه للشعر. وكان من عادته أن يستخدم الكلمات المكتوبة كعنصر لا يتجزّأ من اللوحة.
عندما اندلعت الحرب الأهلية الاسبانية كان الرسّام يعيش في باريس. وقد ظلّ هناك طوال سنوات الحرب مكتفيا بسماع أخبار الوطن عن بعد. ورغم انه لم يكن له ميول سياسية محدّدة، إلا انه كان يعبّر عن قلقه على مصير بلده من خلال الرسم. وقد رسم وقتها عدّة لوحات استخدام فيها ألوانا قاتمة تعكس حزنه وقلقه.
عُرف عن ميرو انه كان إنسانا متواضعا ومنضبطا وقليل الكلام. وعلى عكس الكثير من الرسّامين في عصره، لم يكن هناك في شخصيّته ما يشي بكونه بوهيميّا أو فوضويّاً.
ورغم شهرته العالمية، لم تكن حالته المادّية ميسورة دائما. وبعد أن عاد إلى اسبانيا عام 1940 اختار بالما دي مايوركا مكانا دائما لإقامته وشيّد فيها فيللا خاصّة راعى في تصميمها الطراز المعماري الحديث الذي كان شائعا في الخمسينات.
وقد عاش خوان ميرو إلى أن بلغ التسعين. وتوفّي في ديسمبر من عام 1983م.
وفي ما بعد جرى تحويل منزله إلى متحف يحمل اسمه.

Sunday, December 19, 2010

لوحات عالميـة – 273

أرض الحليـب والعسـل
للفنان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1567

في القرون الوسطى، كان الناس في أوربّا يعتاشون بشكل رئيسي على الزراعة وما تنتجه الأرض من محاصيل وثمار. وكان العمل في الأرض مجهدا ويتطلّب الكثير من المشقّة والتعب.
من جهتهم، كان رجال الدين يحثّون الناس على الزهد في الدنيا والتطلّع إلى ما ينتظرهم من نعيم مقيم بعد الموت، بينما يتمتّعون هم بالثروة والسلطة المطلقة وتوزيع صكوك الغفران على الفقراء.
في ذلك الوقت، ظهرت أسطورة تحكي عن مكان خيالي يقال له كوكين أو ارض الحليب والعسل. تقول تلك الأسطورة انه من اجل بلوغ ذلك المكان يلزم الإنسان أن يعبر نهرا عصيّا وقذرا. وكلّ من يجتاز ذلك النهر بنجاح، ينتهي به المطاف في ارض تتدفّق في جنباتها أنهار من الزيت والحليب والنبيذ مكافأة له على صبره وعزيمته. وفي تلك الأرض تتوفّر كلّ سبل الراحة والرفاهية ويجد الإنسان طوع يده كلّ ما يحتاجه من صنوف المتع والخيرات.
وفيها أيضا بإمكان الإنسان أن ينسى قسوة الحياة الزراعية التي ألفها الناس في أوربّا آنذاك. وفي ارض كوكين لا حاجة للإنسان لأن يعمل لكسب كفافه أو لقمة عيشه. فالطعام وفير والسماء تمطر سمْناً ولبَناً. والإوز المشويّ يطير مباشرة إلى فم الإنسان. والسمك المطبوخ يقفز خارج الماء ليحطّ عند قدمي طالِبه. والطقس دائما معتدل والنبيذ يفيض دون حساب.
وفي ارض كوكين لا حاجة لأن يكافح الإنسان ويكدّ. بل إن الإنسان ممنوع من العمل أصلا. ولا توجد قيود اجتماعية من أيّ نوع. وجميع الناس يستمتعون بالشباب الأبدي والحياة السرمدية. والحرّيات الجنسية متوفّرة للجميع. بل إن الراهبات لا يتحرّجن عن الكشف عن مؤخّراتهن على الملأ.
وقد راج الحديث عن ارض كوكين في الكثير من الأشعار والقصائد في ذلك الوقت. وفي ما بعد استلهمها الموسيقيّ البريطاني إدوارد إلغار في احد أعماله الموسيقية. وكانت الفكرة تختصر رغبة الإنسان في تحقيق أحلامه وتعكس تبرّمه من حياة التقشّف وانتظار الموت التي كان ينصح بها رجال الاكليروس.
وكان لتلك الأرض مُعادِل في كلّ الثقافات الأوربية. لكنّها جميعا تؤدّي نفس المعنى تقريبا. كانت كوكين نوعا من الجنّة الموعودة أو اليوتوبيا. كما يمكن تشبيهها بقارة اتلانتيس المفقودة أو آلدورادو الأسطورية.
رَسَم ارض الحليب والعسل الخيالية فنّانون كثر من بينهم فرانشيسكو دي غويا. وهناك من رسمها على هيئة مدينة بُنيت منازلها من الكعك والسكّر بينما رُصفت شوارعها بالمعجّنات. والناس فيها لا شغل لهم، بل هم مضطرّون للكسل والسكون لأنهم يجدون جميع ما يطلبونه دون تعب أو عناء.
بيتر بريغل رسم ارض الحليب والعسل في واحدة من اغرب لوحاته وأكثرها سخرية. فهو هنا يصوّر ثلاثة أشخاص: عالم وجندي ومزارع، وهم مستلقون على الأرض ويحدّقون في جذع شجرة ضخمة عليها آنية ملأى بالأطعمة. الجندي "الأوّل إلى اليمين" يُرى وهو يفتح فمه بانتظار دجاجة مشويّة تطير باتجاهه في طبق.
وإلى يمين اللوحة رسم الفنان خنزيرا تمّ إلصاق سكّين في ظهره لتسهيل عملية ذبحه وأكله. وإلى يسار اللوحة نرى رجلا جالسا في حانوت، وفوق سطح الحانوت وعلى جانبيه اصطفّت أنواع الأكل والمؤن المعروضة بالمجّان لمن يريدها.
بيتر بريغل الأبّ يتمتّع في الرسم الأوربّي بمكانة خاصة ورائدة. فهو أوّل فنان أوربّي يرسم الثلج المتساقط في لوحاته. وهو أشهر رسّام تحتشد لوحاته بأعداد ضخمة من البشر. وفي إحدى تلك اللوحات، يمكن إحصاء أكثر من مائتي طفل حشرهم جميعا على رقعة الرسم.
وأعمال بريغل إجمالا تتميّز بواقعيتها الشديدة. وقد وصف في بعضها تعاقب الفصول وصوّر الإنسان فيها كجزء من الطبيعة. كما رسم الفلاحين في أوقات صفوهم ولهوهم. ولوحاته الأخرى تصوّر الشياطين والموت. وهناك من يقدّر عدد لوحاته المعروفة اليوم بأكثر من أربعين لوحة.

Wednesday, December 15, 2010

لوحات عالميـة – 272

وسَط أبيض "اصفر ووردي ولافندر على زهري"
للفنان الأمريكي مـارك روثـكـو، 1950

هذه اللوحة تُعتبر احد أشهر الأعمال الفنّية ونموذجا للفنّ الأمريكي الحديث. وقد سجّلت رقما قياسيا عالميا عندما بيعت في مايو عام 2007 في مزاد في لندن بأكثر من 72 مليون دولار أمريكي. وتبيّن في ما بعد أن المشتري المجهول كان أمير دولة قطر. وقد اشترى الأمير وزوجته أيضا في نفس المزاد لوحة فرانسيس بيكون دراسة للبابا اينوسنت العاشر بمبلغ 53 مليون دولار.
مارك روثكو، واسمه الحقيقي ماركوس روثكوفيتش، هو احد أهمّ الرسّامين في القرن العشرين. كما انه رائد ما يُسمّى بأسلوب المجالات اللونية في التعبير التجريدي.
وقد ولد الرسّام في لاتفيا في منطقة بحر البلطيق عام 1902م. وبعد عشر سنوات من ولادته، هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة.
كان روثكو معجبا بـ دوستويفسكي. كما كان مطّلعا على أفكار نيتشه وعلى الميثولوجيا الإغريقية. وفنّه يتسم بالمضامين الانفعالية التي راكمها من خلال تجريبه للعديد من الأساليب الفنّية، من السوريالية إلى الفنّ الميثي إلى البدائي، إلى أن توصّل إلى أسلوبه الخاصّ والمسمّى بالتعبير التجريدي.
وكان أوّل من استخدم هذا المصطلح، أي التعبير التجريدي، الناقد الأمريكي روبرت كوتس عام 1945م. وقد وصف احد النقّاد أتباع هذه المدرسة أو الأسلوب بأنهم يفضّلون التعبير على الإتقان، والمجهول على المعلوم، والغامض على الواضح، والفرد على المجموع، والداخلي على الخارجي.
هذه اللوحة هي أوّل عمل كبير في أسلوب روثكو المشهور والذي ابتكره في شتاء عام 1948م. وفيه نرى كتلا من الألوان المتكاملة مرتّبة أفقيا على رقعة قماش. وقد اعتمد الرسّام على إضافة طبقة فوق طبقة من الطلاء السميك لإنتاج مجال كثيف من الألوان والأشكال المتشابكة.
وقسّم اللوحة من فوق إلى تحت إلى مستطيلات أفقية قوامها الألوان الأصفر والأبيض والوردي واللافندر والزهري. وحاول خلق توازن متناغم بين اللون والشكل من خلال الأشكال المستطيلة الطافية الممثّلة بألوان ذات حوافّ ناعمة. اللون الأبيض المضيء يهيمن على وسط اللوحة. ويبدو كما لو انه يفيض على خلفية من اللون الأحمر الفاتح.
روثكو كان مفتونا على وجه الخصوص باللون الأحمر. وقد اهتمّ به لقوّته وحركيّته ولقدرته على إثارة الارتباطات الانفعالية والعاطفية.
أعمال الرسّام يغلب عليها التأمّل، كما أنها توحي بأجواء وأمزجة مختلفة. وبعضها يقتضي من المتلقّي وقتا أطول في النظر والتأمّل كي يكون مشاركا فيها بفاعلية. أي أن الأفكار والخبرات الفردية عن اللون والضوء تصبح جزءا من العمل.
تتّسم لوحات روثكو أيضا بمساحاتها الكبيرة وبألوانها وتقسيماتها المتعدّدة. وقد أحبّ لوحاته الكثيرون حول العالم وبيع بعضها بعشرات الملايين. لكن بعض منتقديه يذهبون إلى القول إن مساعيه في التعبير عن الأفكار المتسامية كانت طموحة أكثر ممّا ينبغي. بينما يعتبر آخرون أعماله مملّة أو خالية من المضمون.
ورغم أن روثكو بدأ بتجريب الألوان الحيوية والغنيّة في لوحاته المبكّرة، إلا انه انتقل بعد ذلك إلى ألوان أكثر خفّة وبرودة. وكانت تلك في رأي البعض علامة على اكتئابه المتزايد.
في الأعوام الأخيرة من حياته، أصبح روثكو يتناول الكحول بإفراط ويدخّن بشراهة، كما أسلم نفسه لنوبات طويلة من الاكتئاب.
وفي احد أيّام شهر فبراير من عام 1970 أقدم مارك روثكو على الانتحار وهو في سنّ السادسة والستّين. وتبيّن انه كان قد تناول جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة ثم عمد إلى قطع شريان يده بموس حلاقة.
وقبيل وفاته بوقت قصير، تعاقد معه مطعم في نيويورك ترتاده النخب الرفيعة عادة على أن يرسم ستّ لوحات كي تزيّن القاعات الداخلية للمطعم. وعندما فرغ روثكو من رسمها، تراجع عن الاتفاق. وقيل وقتها انه رفض أن تصبح لوحاته مادّة لتسلية الأغنياء وأفراد الطبقة الحاكمة. وفي ما بعد، تبرّع باللوحات لمتحف تيت البريطاني.
والمفارقة انه في يوم وصولها إلى لندن، وُجد الرسّام ميّتا في منزله بـ نيويورك.
يمكن القول إن لوحات مارك روثكو ليست للتسلية أو الاسترخاء. كما أنها لا تحمل أيّ رسائل. والبعض يراها كالنوافذ التي تسمح للناظر أن يطلّ على عوالم الروح. وهذه الأيّام أصبح اقتناء لوحة من لوحاته يُعتبر حلما بالنسبة للمتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة.

Wednesday, December 08, 2010

لوحات عالميـة – 271

تذكير آثاري بـ صلاة ميلليه
للفنان الإسباني سلفـادور دالــي، 1935


كان دالي مفتونا كثيرا بلوحة الرسّام الفرنسي جان فرانسوا ميلليه بعنوان صلاة. وكان قد رأى اللوحة لأوّل مرّة في المدرسة عندما كان طفلا. وتطوّر ذلك الإعجاب بعد ذلك لدرجة أن دالي قرّر رسم تلك اللوحة بعد إضافة رؤيته الخاصّة إليها.
اللوحة الأصلية تصوّر مزارعا وزوجته يقفان في حقل ويؤدّيان صلاة خاصّة وقت الظهيرة. ويظهر الزوجان وهما يصلّيان بخشوع وإلى جوارهما عربة بداخلها جثمان طفل مسجّى.
لوحة دالي هي تنويع على نفس الفكرة مع بعض التحوير. فالحقل في هذه اللوحة يستحيل إلى طبيعة صحراوية قاحلة. والمزارع وزوجته يتحوّلان إلى عامودين أثريين شاهقين. بينما يختفي أيّ اثر للطفل. لكن دالي يضيف إلى المشهد صورة رجل يمشي ممسكا بيد طفل. وعلى الأرض تتناثر قطع من العمودين اللذين ما يزالان يحتفظان بهيئة وقوف الرجل والمرأة في اللوحة الأصلية.
ويقال أن دالي استلهم طبيعة اللوحة من بعض الآثار الرومانية التي اعتاد رؤيتها بالقرب من بيت العائلة. وهناك في اللوحة ثيمة مألوفة في رسومات دالي في تلك الفترة تتمثّل في الرجل الذي يمسك بيد طفل. ومن المعروف أن دالي كانت تربطه بوالده علاقة كان يشوبها الكثير من التوتّر والنفور.
كان دالي يمرّ بفترة عصيبة آنذاك نتيجة لتردّي علاقته مع والده. كان الأب يشعر بخيبة أمل بسبب اختيار ابنه لمهنة الرسم وبسبب سلوك الابن الغريب واحتقاره للأعراف والقيم التقليدية. نفورهما المتزايد من بعضهما دفع دالي للإحساس بأن والده بدأ يتخلّى عنه في مرحلة البحث عن الذات. وفكرة استبعاد دالي للطفل الميّت من لوحته وتعمّده رسم نفسه برفقة والده ربّما تكشف عن هواجسه وخوفه من الموت. وهناك احتمال بأن هذه الجزئية ربّما تمثل رغبة دالي في جسر الهوّة التي تفصله عن والده.
منظر السماء الحزينة وتكوينات السحب الغامضة والتماثيل المتصدّعة والطيور المحلّقة في الأفق، كلّ هذه العناصر يمتزج فيها الحلم بالذاكرة وتسهم في تعميق الجوّ السوريالي المخيف للوحة وتترك شعورا بأن شيئا ما على وشك أن يحدث.
ورغم أن مضمون اللوحة سوريالي بوضوح، إلا أن جميع عناصرها وتفاصيلها منفّذة بأسلوب واقعي.
لوحة ميلليه تركت أثرا عميقا على دالي وظلّت تؤرّقه منذ صغره. لكنه هنا يتجاهل معناها الواضح. وهو لم يكن مهتمّا من الأساس بمضمونها الديني أو الأخلاقي. وكلّ ما كان يثير اهتمامه انه رآها مرّات كثيرة وظلت ماثلة في وعيه منذ أن كان طفلا. لكن الشخصين فيها اختفيا وتحوّلا مع مرور الزمن إلى جزء من معمار الرسّام العقلي والذهني.
اقتباس دالي لأعمال رسّامين آخرين بدأ مع وصوله إلى الولايات المتّحدة. ولكي يؤجّج حماس وتعاطف جمهوره الأمريكي مع فنّ عصر النهضة، رسم أعمالا من وحي كبار رسّامي ذلك العصر مثل رافائيل وديورر وغيرهما.
أما بالنسبة لـ جان فرانسوا ميلليه، فقد كان جزءا من الحركة الواقعية في الرسم. وقد رسم لوحته عام 1858م. وهي تعتبر من بين أكثر الأعمال الفنّية شهرة واحتفاءً.

Wednesday, December 01, 2010

لوحات عالميـة – 270

بورتـريـه شخصـي
للفنانة الروسية زينـيدا سيـريبـريكـوفا، 1910

تنحدر زينيدا سيريبريكوفا من عائلة ارستقراطية جاءت إلى روسيا من اوكرانيا. وقد مرّت عائلتها بظروف صعبة زمن الثورة الروسية ففقدت عددا من أقاربها كما عانت من التشرّد والفقر. وفي منتصف عشرينات القرن الماضي تمكّنت الفنّانة من الهرب إلى فرنسا حيث عاشت في باريس إلى حين وفاتها.
والد سيريبريكوفا كان نحّاتا مشهورا وأمّها كانت رسّامة. وفي بداياتها تلقّت دروسا في الرسم على يد الرسّام الكبير ايليا ريبين قبل أن تذهب إلى ايطاليا ومن ثمّ إلى فرنسا حيث درست في كليّة الفنون الجميلة.
وبعض النقّاد يعتبرونها أوّل رسّامة روسية كبيرة. فقد كانت تتمتّع بموهبة فائقة وغير عادية. وكان من عادتها أن توقّع لوحاتها بالحرف الأوّل من اسمها. وفي كافّة أعمالها كانت سيريبريكوفا تحاول إظهار جمال العالم والتعبير عن نفسها ومشاعرها الخاصّة.
وهذا البورتريه الذي رسمته لنفسها يمكن اعتباره تأكيدا لموهبتها وبداية لاعتراف الجمهور والنقاّد بها كرسّامة. وفيه رسمت نفسها في غرفة زينتها الصباحية.
في الغرفة المليئة بظلال اللون الأبيض تبدو الفنّانة بعينين مشعّتين ونظرات دافئة وودودة. وهناك شموع وطاولة لتصفيف الشعر وأدوات زينة أخرى. الصورة فيها بساطة وحميمية. كما أنها تعطي انطباعا بأن البورتريه رُسم لدائرة صغيرة من العائلة. جوّ اللوحة مبهج أيضا، ويقال إنها السبب في ذيوع شهرتها في روسيا عندما تمّ عرضها هناك عام 1910م.
ويبدو أن اللوحة رُسمت في ذروة الأزمة الروحية التي مرّ بها المثقّفون الروس بسبب فشل ثورة عام 1905، أي الفترة التي شهدت انكسار الأحلام والتحرّر من الوهم وفقدان الثقة بالروح الإنسانية.
وقد بلغت الرسّامة أوج شهرتها في عشرينات القرن الماضي عندما رسمت سلسلة من اللوحات التي تصوّر الريف الروسي والحياة الزراعية التي كانت تحبّها كثيرا.
لكن عندما اندلعت الثورة البلشفية عام 1917 تغيّرت حياتها فجأة. فبعد الثورة بعامين مات زوجها في السجن تاركا لها أربعة أطفال بعد أن نُهبت أو صودرت جميع ممتلكاتهم وتُركوا فريسة للجوع والفقر.
وبعد ذلك بسنوات ذهبت سيريبريكوفا الى باريس حيث درست فيها فنّ عصر النهضة، وكانت تتردّد على اللوفر لمعاينة أعمال كبار رسّامي عصري النهضة والباروك.
ولوحاتها عن الطبيعة تمثّل انعكاسا لشخصيتّها المحبّة للجمال في الطبيعة وفي البشر. وليس في تلك اللوحات ما يشير إلى الحرمان الاقتصادي والاضطراب السياسي الذي شهده بلدها في ذلك الوقت.
لكن تلك اللوحات كانت تفتقر إلى عنصر مهمّ، هو ارتباط الرسّامة بالشيء الأعزّ على قلبها، أي وطنها وأبنائها. وقد حاولت العودة إلى روسيا حيث والدتها وأبناؤها الأربعة فلم تستطع.
وبعد ستّ وثلاثين سنة في فرنسا، استطاع اثنان من أبنائها زيارتها في باريس لأوّل مرّة. وأرادت إحضار الباقين فلم تستطع. لكنها حصلت على الجنسية الفرنسية في ما بعد.
وقد سافرت زينيدا سيريبريكوفا إلى شمال أفريقيا وأعجبت بطبيعة المغرب ورسمت جبال الأطلس ونساءً عربيّات بأزيائهن التقليدية.
ويقال إن أهمّ أعمالها هي لوحاتها العارية التي مزجت فيها بين الجمال الكلاسيكي والحداثة.
وقد توفّيت سيريبريكوفا عام 1966 في منزلها بـ باريس عن عمر ناهز الثمانين ودُفنت في المقبرة الروسية في باريس.
وقبل رحيلها بعام واحد احتُفل بها في روسيا كأحد أعظم الرسّامين الروس.
وتنفيذا لوصيّتها اُعيد عدد كبير من لوحاتها إلى روسيا واستقرّ جزء مهمّ منها في متحف تريتياكوف.

Wednesday, November 24, 2010

لوحات عالميـة – 269

وقـت للموسيقـى
للفنان الفرنسي لـوي جوستـان ايكـارت، 1934


في لوحات ايكارت نلمس بوضوح تأثيرات من مونيه وديغا وأحيانا غوستاف مورو. غير أن من الصعب تصنيفه ضمن الحركات الفنّية الحديثة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إذ لم يُعرف عنه تعاطفه أو انجذابه إلى أيّ منها.
وأعماله بشكل عام تقدّم صورة لما كانت عليه باريس ونيويورك في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ومشاهده الباريسية، خاصّة، يمكن اعتبارها توثيقا لطبيعة وأسلوب الحياة في فرنسا في ذلك الوقت.
كان ايكارت متخصّصا في رسم النساء الارستقراطيات. ومن خلال ذلك كان يحاول الإمساك بجوهر الأنوثة. والنساء يظهرن في لوحاته مرتديات ملابس فخمة واكسسوارات أنيقة وهنّ يتّكئن على أرائك وثيرة أو يخطين خارج عرباتهنّ أو يهمسن في أذن صديق على العشاء أو يمشين برفقة كلابهنّ، بينما تفيض وجوههنّ بالصحّة والنضارة .
في هذه اللوحة يرسم ايكارت أربع نساء يتدرّبن على عزف الموسيقى داخل غرفة. ألوان ملابس النساء ناعمة ومتناغمة مع ألوان ديكور المكان الذي يجلسن فيه. توزيع الضوء والظلّ في اللوحة يضيف إلى المشهد إحساسا بالرومانسية والرقّة. وملامح الوجوه هنا تذكّر إلى حدّ ما بملامح النساء اللاتي يظهرن في لوحات تمارا دي ليمبتسكا.
وعندما تتمعّن في هذه الصورة لا بدّ وأن تستنتج أن هؤلاء النساء يعشن في عالم بلا أطفال ولا ينشغلن بأداء أعمال منزلية روتينية من قبيل ما تفعله معظم النساء عادة.
كان ايكارت يعرف كيف ينظر إلى المرأة، ومن ثم يوصل فكرته أو انطباعه إلى الورق. كما انه لم يكن يستغلّ النساء كما فعل رسّامو القرن العشرين عندما جردّوها من ملابسها.
ولد لوي جوستان ايكارت في تولوز بجنوب فرنسا التي كانت حاضنة للكثير من الأدباء والفنّانين في ذلك الوقت. وكانت اهتماماته عديدة ومتنوّعة. فمنذ صغره أبدى اهتماما بالموضة والأزياء. كما كان يعرف في الكيمياء وفي تقنيّات الصقل. وقد وظّف هذه المعرفة في رسم لوحاته ومن ثمّ معالجتها كيميائيا ثمّ نقلها إلى أطباق النحاس كي ينتج النوعية التي يريدها.
كانت لوحاته مشهورة جدّا في زمانه وكان الطلب عليها كبيرا، خاصّة من قبل جامعي التحف الفنّية. وفي أمريكا ألهمت رسوماته قصائد شعر وروايات وكانت تروق للباحثين عن تحف فنّية نادرة من الأمريكيين. لذا عرف الرسّام الغنى في حياته وكوّن ثروة كبيرة. وفي عام 1914 التقى إحدى أجمل العارضات في باريس ثم أصبحت زوجته وملهمته خلال ما تبقّى من حياته.
في تلك الفترة، أي في مطلع عشرينات القرن الماضي، ظهر لأوّل مرّة مصطلح الفنّ الديكوري الذي أصبح ايكارت احد رموزه المهمّة.
وقد خدم الرسّام في جيش بلاده أثناء الحرب العالمية الأولى، لكنّه كان يركّز على الرسم، لا على فنون الحرب. وبعد انتهاء الحرب افتتح له محترفا في باريس وبدأ يبيع لوحاته على أفراد ينتمون غالبا إلى طبقة النخبة.
تصوير ايكارت للنساء حسّي لكنه لم يكن يخلو من روح المرح والدعابة أحيانا.
كما أن بعض لوحاته حالمة جدّا وبعضها الآخر مستفزّة نوعا ما.
بعد عام 1940 تحوّل الرسّام إلى مواضيع أكثر جدّية فرسم لوحات تصوّر فظائع الاحتلال النازي لـ باريس.
وما تزال أعماله من بين أكثر ما يطلبه جامعو التحف الفنّية. لكن المشكلة أن أكثر لوحاته المتوفّرة اليوم مزيّفة وليست أصيلة.
ومع تجدّد الاهتمام بالفنّ الديكوري، انتعش الطلب على أعماله كما ألّف كتاب عن حياته وفنّه.

Wednesday, November 17, 2010

لوحات عالميـة – 268

منظـر للغسَـق مع ضـوء قمـر واهـن
للفنان الروسي إيـسـاك ليفـيتـان، 1899


يعتبر ايساك ليفيتان احد أعظم رسّامي الطبيعة الروس. ولوحاته تتميّز بسحرها وشاعريّتها. كما أنها تثير الحزن أو التأمّل من خلال تصويرها للطبيعة الرعوية التي تخلو غالبا من حضور الإنسان.
كان ليفيتان يحبّ الطبيعة ويقدّرها كثيرا. ولوحاته لا تخلو من صور لجسور وأديرة وقوارب وممرّات تقود الناظر إلى شطآن ذهبية بعيدة.
وقد اكتشف الفنّان سحر الطبيعة الروسية ورسمها وصوّر جمال الأنهار والشواطئ وأحزان الخريف ونداءات الربيع الغامضة. وسجّل كلّ هذا بطريقة لا تختلف كثيرا عمّا كتبه شعراء وكتّاب روسيا الكبار أمثال بوشكين وتورغينيف وغوغول، وهو ما اكسب لوحاته جاذبيّة عالمية.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم ايساك ليفيتان صورة للطبيعة وقت الغسق وتحت ضوء قمر خافت. وفي اللوحة يظهر بوضوح تأثّر الرسّام بالأسلوب الانطباعي من خلال الفرشاة الديناميكية والألوان الساطعة والمتوهّجة. وقد رسم اللوحة بعد عودته من باريس التي اكتشف فيها عالم الانطباعيين.
أضواء المساء، وأحيانا أضواء الصباح الباكر، هي احد الموتيفات التي ظلّ ليفيتان يرسمها باستمرار. وكثرة الأضواء في لوحاته ربّما تشي بأنه كان إنسانا سعيدا بالرغم من حياته القصيرة.
كان ليفيتان يؤمن بأن الإنسان خُلق من اجل الطبيعة، وليس العكس. وقد كان ميّالا إلى مزج جمال الطبيعة بالمشاعر المتناقضة التي تعتري روح الإنسان.
وبعض لوحاته لا تخلو من مناظر لقرى مبعثرة وسط التلال وحقول محروثة وغيوم بيضاء منخفضة تثير إحساسا بالسلام والطمأنينة وتشعِر الناظر برحابة الطبيعة وضآلة الإنسان وسط مساحات الماء الأزرق الذي يغمر كلّ شيء.
كان ليفيتان دائم البحث عن إجابات لتأمّلاته وتساؤلاته الفلسفية العميقة حول معنى الوجود الإنساني والقدَر ومكان الإنسان في العالم. وبعض لوحاته تنطوي على رمزية ما. في إحداها، يرسم جزيرة صغيرة بين السماء والماء تتعرّض للرياح من جميع الاتجاهات، بينما تظهر مقبرة مهجورة وكنيسة تبدو في نافذتها شمعة تجاهد للبقاء مشتعلة.
كان الرسّام دائم التردّد على منطقة الفولغا التي اعتاد أن يقضي فيها فصلي الربيع والصيف من كلّ عام. هناك أمكن لموهبته أن تنمو بسبب الفراغات الكبيرة التي يفيض فيها النهر، ما ألهمه رسم مناظر معبّرة ومملوءة بمشاعر الضوء والفرح. تنظر إلى بعض تلك الصور فتشعر بقوّة الريح التي تدفع الغيوم في السماء وتعبث بماء النهر.
عانى الفنّان من الفقر والحرمان معظم حياته. وجرّب مرارة اليُتم عندما توفّي والده وأمّه وهو بعد في سنّ صغيرة. لكنه اظهر منذ الصغر ميلا قويّا للرسم فدخل كلّية موسكو للفنون الجميلة ودرس على يد فاسيلي بيروف. وفي ما بعد طوّر أسلوبه الخاصّ في الرسم. وقد ربطته بالكاتب انطوان تشيكوف علاقة صداقة استمرّت حتى وفاة الثاني.
عانى ليفيتان من مرض القلب ومات قبل أن يكمل عامه الأربعين ولم يترك وراءه زوجة أو أطفالا. وإنفاذا لوصيّته، دُفن إلى جوار ضريح تشيكوف. وكان قد مُنح قبيل وفاته لقب أستاذ من أكاديمية سانت بيترسبيرغ.
وبعض لوحاته هي اليوم من ضمن مقتنيات متحف تريتياكوف، بينما يستقرّ عدد من لوحاته الأخرى في منزله على ضفاف نهر الفولغا والذي تمّ تحويله في ما بعد إلى متحف يحمل اسمه.

Wednesday, November 10, 2010

لوحات عالميـة – 267

آنيـة الخـزف
للفنّان الصيني تشـي تشـويـو، 1979

بلغ من شهرة هذه اللوحة وانتشارها انه بيع منها داخل الصين وخارجها أكثر من عشرة ملايين نسخة.
وبسبب انتشارها الكبير دخلت اللوحة تاريخ الفنّ الصيني من أوسع أبوابه. وهي مألوفة جدّا، مع أن الكثيرين لا يعرفون اسم الفنّان الذي رسمها.
وإلى هذه اللوحة بالذات يعود الفضل في شهرة الرسام تشي تشويو. لكنّها في نفس الوقت سبّبت له العديد من المشاكل، بسبب تعرّضها للقرصنة والتزوير واستنساخها بكمّيات كبيرة وبشكل غير قانوني، في ظلّ عدم وجود قانون في الصين يحمي الحقوق الفكرية في ذلك الوقت.
لوحات تشويو تستمدّ مواضيعها وأفكارها من أساليب الرسم الصين الكلاسيكي مع مزجها ببعض الأساليب الغربية.
ومعظم لوحات الرسّام تصوّر نساءً صينيات حديثات، مع خلفيات من مناظر الطبيعة. والنساء في لوحاته يبدين على قدر من الجمال والبساطة والنبل والأناقة، وأحيانا البراءة.
وغالبا ما يضيف الرسّام إلى مناظره عناصر غربية كي يجعلها أكثر تقبّلا لدى المتلقّي الغربي.
ومن الواضح انه يولي عناية فائقة للألوان والتباينات، بالإضافة إلى اهتمامه بإعادة تشكيل الشعر والملابس والاكسسوارات التي يضمّنها لوحاته في محاولة للمزاوجة بين الأذواق الكلاسيكية والحديثة. لكنّه في جميع الأحوال يُبقي على الملامح الصينية الصميمة لنسائه.
ولد تشي تشويو عام 1961 في مدينة غواندونغ وتخرّج من كلّية الفنون الجميلة في غوانزو. وفي ما بعد، درس على يد أشهر الرسّامين في هونغ كونغ والصين. كما عرض لوحاته في تايوان وسنغافورا وأمريكا وفرنسا وعمل محاضرا وأستاذا جامعيا في العديد من الجامعات الصينية والأمريكية.
وتشويو نموذج للفنّان الذي لا تنفصل حياته عن فنّه. وهناك من يشبّه لوحاته بالشعر الكلاسيكيّ الصيني. وقد حاز شهرة عالمية هي نتاج سنوات طويلة من الاكتشاف والممارسة والبحث الدائم عن الكمال.
في هذه اللوحة يرسم تشويو فتاة عارية جزئيا وذات شعر اسود وهي تحمل آنيّة فخّارية وتنظر إلى البعيد، بينما يبدو خلفها منظر لبحر وصخور.
اهتمام الرسّام بتعبيرات الوجه وتفاصيل الملابس والألوان واضح. وهناك أيضا طريقته البارعة في تمثيل الماء والأمواج والصخور. ملامح الفتاة نفسها لا تخلو من براءة. وما يعمّق هذا الإحساس نظراتها التي لا تخلو من تأمّل وحزن.
استُخدمت هذه اللوحة في العديد من الإعلانات كما وُضعت في الفنادق والبارات وصالونات التجميل والمطاعم. وفي بعض الأحيان أخضعت الصورة لعمليات مونتاج استُبدلت فيها الجرّة بلوازم كهربائية أو بثمار فاكهة وألبست المرأة حمّالات صدر.
تشي تشويو لا يرسم جمال المرأة فحسب، بل يستحضر عالمها الداخلي إلى لوحاته. وبشكل عام، يمكن اعتبار لوحاته دراسة بصرية للتحوّلات الاجتماعية التي مرّت بها المراكز الحضرية في الصين منذ الثورة الثقافية التي كان الرسّام معاصرا لها.
كما يمكن القول إن هذه اللوحات تحكي عن قوة وسيرورة الزمن. فالمنظر الصحراوي الذي يختاره خلفيّة للوحة ربّما كان ذات يوم مرجا أو سهلا اخضر، أو العكس.
تشي تشويو، على الرغم من شهرته، شخص عُرف ببساطته وتواضعه. فهو لا يدخّن ولا يشرب الكحول ولا يقتني سيّارة ولا منزلا فارها. وهاجسه الوحيد ظلّ على الدوام غموض المرأة ومحاولة رسمها بصورة قريبة من الكمال.
وممّا يلفت الانتباه حبّ الرسّام الجارف للشعر والموسيقى. ربّما لهذا السبب يتعمّد اختيار أسماء شاعرية للوحاته مثل مسافرة، حلم، الإوزّة الصغيرة، طريق الحرير، وفتاة من الجنوب.

موضوع ذو صلة: الصين الجميلة

Wednesday, November 03, 2010

لوحات عالميـة – 266

عمّال يقشرون أرضيّة خشبية لغرفة
للفنان الفرنسي غوستـاف كايـّيـبـوت، 1875


لم يدم اشتغال غوستاف كايّيبوت بالرسم سوى فترة قصيرة نسبيّا. ومع ذلك فقد ترك عددا لا بأس به من اللوحات الرائعة ما بين بورتريهات ومناظر للطبيعة، بالإضافة إلى صوره الشاعرية الجميلة عن مظاهر الحياة في المدينة.
اهتمام هذا الرسّام بتصوير الأمكنة والأنشطة الاجتماعية دفع كثيرا من النقّاد إلى مقارنته بمعاصريه من الكتّاب الواقعيين أمثال اميل زولا وديورانتي.
لكن هناك من يتساءل عن مكانته بين الانطباعيين. البعض يقول انه لم يكن يملك مهارة إدغار ديغا في الرسم ولا براعة كلود مونيه في توظيف واستخدام الألوان.
لكن اعتمادا على القيم الجمالية، فإن الكثيرين يقدّرون أعماله ويرون فيها أصالة وتميّزا لا يقلان عمّا بلغه أقرانه من الرسّامين في ذلك الوقت. هذه اللوحة رسمها الفنّان بطريقة محكمة ومثالية. وهي نموذج لتقدير العمل الجادّ وروح العزيمة والإصرار. كما أنها من أوائل الأعمال التشكيلية التي صوّرت بروليتاريا المدينة. وفيها يرسم كايّيبوت ثلاثة رجال وهم يجثون على أيديهم ورُكَبهم ويعملون بجدّ ونشاط في تقشير الأرضية الخشبية لإحدى الغرف.
من الواضح أن الرجال الثلاثة يعرفون أن لديهم مهمّة، وهم يعملون بجدّ ودأب لتقشير وتمليس الأرضيّة الخشبية وإضافة التشطيبات الأخيرة عليها. الغرفة مظلمة والرجال متخفّفون من قمصانهم كي يحتفظوا ببرودة أجسامهم، وهناك زجاجة شراب موضوعة في الجوار لإطفاء عطشهم.
الفنّان رسم أجزاء اللوحة طبقا للأساليب الأكاديمية. والأجساد العارية للعمّال تشبه بُنية الأبطال القدماء، وهو شيء لم يكن من الممكن تصوّره عن عمّال باريس في ذلك الوقت.
كان غوستاف كايّيبوت منتميا لعائلة ثريّة. لذا لم يكن محتاجا لبيع لوحاته كي يعتاش من ريعها، بل كان يعهد بها إلى شقيقه الذي كان بدوره يوصي بأن تذهب إلى ورثته. وقد توقّف عن عرض لوحاته وهو في سنّ الرابعة والثلاثين. وعندما توفّي بعد ذلك باثني عشر عاما، أصبح من النادر رؤية لوحاته. بل انه عندما كُتب تاريخ الانطباعية، فإن اسم كايّيبوت تمّ نسيانه، أو على الأقلّ عُومل بالتجاهل إلى درجة كبيرة.
لكن في خمسينات وستّينات القرن الماضي، أعيد له الاعتبار مرّة أخرى وتجدّد الاهتمام بلوحاته. وترافق ذلك مع إقدام معهد شيكاغو للفنون على شراء لوحته الجميلة والمشهورة "شارع باريسي في يوم ممطر".
عرض الرسّام لوحته هذه في صالون باريس، إلا أن المحكّمين رفضوها لشدّة واقعيّتها. لذا قرّر الانضمام إلى الانطباعيين وعرض اللوحة في معرضهم الثاني. وقد أعجب بها الروائي زولا، إلا انه اخذ عليها دقّة تفاصيلها، ما يجعلها لوحة بورجوازية، من وجهة نظره.
ومع ذلك ظلّت اللوحة تروق لأصحاب الأفكار الاشتراكية والبروليتارية. فهؤلاء الرجال، من وجهة نظرهم، يعملون من اجل إعالة عائلاتهم. وهم موجودون في عالم من الثروة التي ليس لهم نصيب فيها. كما أنهم يعملون في منزل رجل غنيّ، أي أنهم في النهاية يكدّون ويكدحون كي يستمتع شخص آخر بثمرة جهدهم وتعبهم.
كان رسم الطبقة العاملة تقليدا شائعا في نهايات القرن التاسع عشر. فقد رسم ميليه الفلاحين، ورسم كوربيه كسّاري الحجارة. لكن نادرا ما كان يظهر عمّال المدينة في الرسم.
وعلى عكس كوربيه وميليه، كان من عادة كايّيبوت أن لا يضمّن لوحاته أيّ دروس أو مضامين اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية.
كان يركّز أكثر على دراسة شخصيّاته وتصوير حركاتهم وأدواتهم، وهو ما حفظ اسمه كأحد مشاهير الرسّامين الواقعيين.

Wednesday, October 27, 2010

لوحات عالميـة – 265

قصيـدة رعـويـة
للفنان الأمريكي كينـيون كـوكـس، 1890

ظلّت الطبيعة الرعوية موضوعا مفضّلا في الأدب والفنّ على مرّ قرون. وقد تكرّس هذا الاهتمام مع التركيز المتزايد على فكرة أركاديا كمكان مثالي وشاعري ما يزال يتردّد كثيرا في الآداب والفنون البصرية الغربية.
وبعض أشهر الصور الرعوية رسمها نيكولا بوسان الذي كان يملأ لوحاته بصور الرعاة والطبيعة، لكن دون حيوانات أو ماشية.
كما رسم هذا النوع من الصور كلود لوران الذي كان يركّز على مناظر الطبيعة ويكتفي بوضع القطعان والرعاة في خلفيّة اللوحة.
ويُعزى الفضل في إرساء تقاليد الشعر والفنّ الرعوي إلى الشاعر الروماني فيرجيل من خلال ديوانه "قصائد رعوية" الذي كان مصدر إلهام لأجيال عديدة من الشعراء والرسّامين الذين أتوا بعده.
وقد ضمّن فيرجيل ديوانه عشر قصائد تتحدّث عن قصص حبّ محبطة وتتضمّن صورا عن الشوق والرغبة والحنين في قالب يجمع بين الايروتيكية والحزن والمواعظ الأخلاقية. وفي القرون التالية تحوّل هذا الشاعر في أذهان الناس إلى متنبّئ أو قارئ للغيب. ويقال إن قصائده تلك لها معنى ظاهر وباطن. وفي العصور الوسطى نُسبت له قوى تنبّؤية خارقة. كما اتّخذ منه دانتي مرشدا له في رحلته إلى الجحيم التي أوردها في كتاب الكوميديا الإلهية.
هذه اللوحة رسمها كينيون كوكس من وحي إحدى قصائد فيرجيل الرعوية والتي تتحدّث عن حوار بين مجموعة من النساء يجري وسط طبيعة خضراء في اليونان القديمة.
واللوحة جزء من سلسلة من اللوحات الشاعرية التي رسمها لنساء عاريات. وقد أدرك كوكس شعبية هذه النوعية من اللوحات عندما كان يقيم في باريس.
غير أن لوحاته تلك لم تلاقِ التقدير الذي تستحقّه من لدن الجمهور الأمريكي في وقت لم تكن القيم الليبرالية قد انتشرت وتجذّرت.
تفاصيل هذه اللوحة، من قبيل الخطوط الدقيقة والألوان المحكمة ودقّة تصوير الجسد، كلّها تذكّر بالرسم الأكاديمي وتشير إلى تأثّر الرسّام بأسلوب تصوير التماثيل الرومانية والإغريقية.
درس كوكس الرسم في باريس على يد جان ليون جيروم. وتأثّره واضح بأسلوب الأخير في رسم الأشخاص.
كان كينيون كوكس مخلصا للفنّ كما كان ناجحا وذا نفوذ كبير في زمانه. كما عُرف بدفاعه القويّ عن قيم الرسم التقليدي وببراعته في رسم الجداريات الضخمة. وكانت المرأة العارية موضوعه المفضّل في الرسم.
وبالإضافة إلى اشتغاله بالرسم، كان كوكس شخصا مثقّفا ومتعدّد الاهتمامات. وقد كتب العديد من المقالات في الصحف والمجالات، كما ألّف أكثر من كتاب عن تاريخ الفنّ.
ورغم انه كان رسّاما متميّزا، إلا انه لاقى كثيرا من الإهمال والتجاهل في عصره.
في إحدى قصائده الرعوية، يتحدّث فيرجيل عن ولادة طفل خارق للعادة. وقد فسّر الكثيرون ذلك على أنه نبوءة بمجيء المسيح.
ويقال إن الشاعر مات مقتولا على يد احد أتباع القائد اوكتافيان بعد انتهائه من كتابة ملحمة الإنيادا.

Wednesday, October 20, 2010

لوحات عالميـة – 264

شُرفـة علـى شاطـئ البحـر
للفنان الروسي باتـو دوغـارجـابـوف، 2007

لولا أن هذه اللوحة تحمل اسم رسّام آخر، لظنّ الناظر أنها لوحة غير معروفة لـ كلود مونيه. فأوجه الشبه بين الاثنين كثيرة.
ولو صحّ أن الرسّامين يمكن أن يُستنسخوا في أزمنة مختلفة، لكان هذا الرسّام الروسي الشابّ أحقّ من غيره بنيل لقب مونيه الجديد.
بل إن في خصائص ألوان دوغارجابوف ما يشي بأنه قد يكون تجاوز المستوى الذي بلغه سيّد الانطباعية القديم.
مناظر دوغارجابوف مدهشة، تأسرك بألوانها وأضوائها الساحرة. والطبيعة في لوحاته تنطق بالكثير من آيات السحر والجمال. كما أن لمعان ألوانه يشهد بموهبته الفائقة وفهمه العميق للعلاقة بين الألوان والفراغات والخطوط.
وصور الرسّام عموما تعكس جمال الطبيعة الروسية: أمسيات الصيف الهادئة، الضباب الذي يلفّ الطبيعة وقت الفجر ولحظات الغسق بهدوئها وغموضها المهيب.
في هذه اللوحة يرسم دوغارجابوف منظرا لشرفة تطلّ على شاطئ البحر. تفاصيل المشهد عامرة بالإيقاعات الموسيقية التي تتشكّل من امتزاج الخطوط والألوان. وكلّ شيء فيها يلمع في وهج الشمس، حتى انعكاسات الظلال. الرسّام يضع جمال العالم تحت نظر المتلقّي من خلال هذا التناغم المدهش للألوان التي ينبثق منها الضوء بنعومة لينعكس على الطاولة والمزهرية والكراسي والسياج المعدني والستارة وعلى كلّ شيء.
دوغارجابوف رسّام متميّز ومختلف. تنظر إلى لوحاته فتظلّ في ذاكرتك لزمن طويل. وستلاحظ أن كلّ شيء فيها مغطّى بطبقة ناعمة من الضوء. الانعكاسات الناعمة والمتوهّجة تطبع كلّ شيء، بدءاً من أزهار الليلك إلى الطاولات والكراسي والمظلات والبيوت والقوارب والأشجار المحتشدة على ضفاف الأنهار.
والسماء والماء عنده يندمجان ويذوبان معا ليتحوّلا إلى وحدة واحدة ومتناغمة.
عشق الرسّام للطبيعة واضح وجليّ في كلّ ضربة من ضربات فرشاته. وكلّ لوحة تخلق عالمها الخاصّ الذي هو مزيج من الروحانية والرومانسية والشعر.
بعض مناظر دوغارجابوف تبدو تجريدية إلى حدّ ما. لكن ما أن تبتعد عنها قليلا حتى تكشف عن إيقاعاتها وتفاصيلها. وكلّما قضيت وقتا أطول في النظر إلى لوحة، كلّما أفصحت لك عن المزيد من مظاهر جمالها المخبوء.
ولد باتو دوغارجابوف في قرية روسية تقع على الحدود مع منغوليا. ومنذ طفولته كان يضع عينه على السهوب الواسعة والمروج الخضراء التي تتخللّها الأنهار والغابات والحقول. المنطقة المجاورة للبحر الأسود أو الريفيرا الروسية كما تُسمّى، كانت وما تزال البقعة المفضّلة التي يستمدّ منها إلهامه. وبعض النقّاد يعتبرونه امتدادا لجيل الانطباعيين الروس الكبار أمثال كونستانتين كوروفين وفيودور زاكاروف وابرام اركيبوف.
درس باتو دوغارجابوف الرسم في موسكو وشارك في معارض في موسكو وباريس. وخلال السنوات الأخيرة وجدت بعض أعماله طريقها إلى المجموعات الفنّية الخاصّة في روسيا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا واليابان.

Wednesday, October 13, 2010

لوحات عالميـة – 263

طبيعـة كـلاسيكيـة
للفنان الأمريكي تشـارلـز شيلـر، 1931


في لوحة تحمل عنوانا كهذا، يتوقّع الإنسان أن يرى صورة لأشجار وارفة الظلال وأنهار رقراقة وجبال شاهقة على نحو ما نراه عادة في لوحات رسّامي الطبيعة الكلاسيكيين الغربيين، من أمثال توماس كول وجون كونستابل والبيرت بيرشتادت ووليام هنت وغيرهم.
غير أن تشارلز شيلر لا يرسم شيئا من هذا كلّه. وما يظهر في اللوحة هو احد مصانع شركة فورد للسيّارات في ميشيغان بعد افتتاحه مباشرة. في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي كان مصنع فورد أضخم مجمّع صناعي في العالم. كان مشروعا ضخما للغاية. وبدا انه يجسّد القوى الاجتماعية للعصر الجديد.
والرسّام هنا يعبّر عن نظرته لعصر التصنيع الذي زحف على مظاهر الطبيعة. واللوحة تُظهر أن كلّ ما بقي من العالم الطبيعي هو السماء التي تمتزج فيها الغيوم بدخان المصانع.
المنظر ساكن تماما ويشبه صمت أجواء دور العبادة. لكن الطبيعة غائبة تماما عن اللوحة بعد أن حلّت مكانها مباني المصانع الباردة والكئيبة. وعندما تتمعّن في تفاصيل اللوحة سيُخيّل إليك كما لو أنها رُسمت بالمسطرة لفرط دقّة وإحكام الخطوط والتفاصيل الهندسية.
هذه اللوحة كانت أحد أفضل الأعمال الفنّية في زمانها ثم أصبحت تحفة من تحف الفنّ الأمريكي في القرن العشرين.
كان شيلر يستخدم في لوحاته أسلوبا ظهر في بدايات القرن الماضي كان يُعرف بالواقعية التكعيبية. وهي حركة فنّية بدأت بوادرها في أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت فكرتها الأساسية التصنيع والتحديث وأثرهما على الطبيعة الأمريكية.
وكان معتنقو هذا الأسلوب يركّزون على تصوير العمارة الصناعية ويرسمون مواضيع صناعية وميكانيكية مثل المداخن وآلات سبك المعادن ومخازن الحبوب. كان يجري تصغير الأشياء وتحويلها إلى أشكال هندسية يتمّ تمثيلها بالضوء الساطع وبطريقة تمزج ما بين التجريد والواقعية.
اهتمام شيلر بالأشياء الصناعية كان ينبع من حبّه المتجذّر للأشكال المعمارية. وكان قد تصالح مع ملامح التصنيع ورسم ما يراه كأشكال أساسية.
ومن الواضح أنه كان يسجّل في اللوحة آثار الزحف الصناعي الذي تسبّب في عملية إزاحة تدريجية للطبيعة وما ترمز إليه من سموّ وجلال.
ويمكن القول إن اللوحة تختزن في تفاصيلها قيم عصر الميكنة والآلة. تنظر إلى هذه اللوحة فتحسّ أنها جافّة إلى حدّ كبير. يمكن للإنسان أن يرى هذا المنظر في متحف، لكن وضعه على الجدار والنظر إليه فترة طويلة قد يجلب الإحساس بالإحباط والاكتئاب. وربّما يكون عنصر الكلاسيكية الوحيد في اللوحة هو أن شكلها العام يذكّر بالكاثدرائيات في أوربّا القرون الوسطى.
العنوان اختير كي يوحي بأن اللوحة نفسها كلاسيكية، من حيث شكل المسارات والمداخن. المبنى الوحيد فيها له حدود ومعالم واضحة ويمكن مقارنته بعناصر المعمار الكلاسيكي الذي كان سائدا في اليونان القديمة.
خطّ السكّة الحديدية يوحي بالحركة. ومع ذلك تبدو السكّة مهجورة ولا شيء فيها يتحرّك. فقط يمكن رؤية السماء التي تتصاعد باتجاهها أدخنة المصنع كي تختلط بالغيوم ومن ثمّ تتحوّل إلى منتج ثانوي لعصر التصنيع والتكنولوجيا.
المصنع يبدو فارغا ووحيدا في ضوء الشمس كما لو انه هو الذي اوجد نفسه بنفسه وهو الذي يوجّه العالم من حوله بناءً على خططه الخاصة.
الفكرة هنا هي أن المصنع هو الذي يحرّك الأشياء ويتحكّم فيها وليس جزءا من عالم مترابط العناصر.
في اللوحة أيضا لا يوجد بشر أو حيوانات. وانعدام وجود بشر في اللوحة قد يكون دعوة من الرسّام للناظر كي يتصوّر نفسه جزءا من الفراغات المفتوحة والخاوية.
المشهد مسطّح والألوان مزيج من الزرقاء والبيضاء والبنّية. وبين الفراغات والمباني ثمّة ظلال حادّة وممتدّة. تصميم المصنع يبدو جميلا بالنسبة لرسّام كان يحبّ الأشكال النظيفة والتصميم المجرّد.
الضوء في اللوحة ساطع جدّا مع أن الطبيعة ليست بمثل هذا الهدوء واللمعان والجمال. وواضح انه جرى رسم كل ممرّ كي يبدو شديد التناسق مع الممرّات الأخرى.
كان هنري فورد هو الذي صاغ مصطلح الإنتاج بكميّات كبيرة والذي تحوّل فيه العمال إلى مجرّد جزء من الآلة. صحيح أن هذا أدّى إلى اختزال أهميّة دور الإنسان، لكنه أيضا أتاح إنتاج السلع بجودة معقولة وبأسعار تناسب معظم الناس.
بالنسبة لإنسان القرن الحادي والعشرين، قد تبدو هذه اللوحة بمثابة محاكمة لعصر الآلة. لكنّها بالنسبة لمن عاش في ثلاثينات القرن الماضي ترمز لقدرة أمريكا وعبقرية الأمريكيين.
كان الأمريكيون في ذلك الوقت فخورين بالنهضة الصناعية التي حقّقها بلدهم والتي أسهمت في تسهيل الحياة ورفع مستوى المعيشة عند غالبيتهم. لكن هناك اليوم من يبدون قدرا كبيرا من الأسف عندما يتبيّنون آثار التصنيع المدمّرة على البيئة.
درس تشارلز شيلر الرسم على يد وليام تشيس وحقّق نجاحا مبكّرا كرسّام. ثم ذهب إلى باريس في ذروة شهرة التكعيبية وعمل بالتصوير التجاري لبعض الوقت. وفي باريس أيضا تعرّف على أعمال بيكاسو وماتيس وغيرهما من رموز الحداثة الأوربّية.

Tuesday, October 05, 2010

لوحات عالميـة – 262

أزهـار خشخـاش شـرقـي
للفنانة الأمريكية جـورجـيـا اوكِـيـف، 1928

كانت جورجيا اوكيف رسّامة حداثية رائدة. وقد عُرفت بأسلوبها المتفرّد الذي يتحدّى كلّ قواعد الرسم المعروفة.
كما أنها أعطت تعريفا جديدا لمعنى الرسم الأمريكي الحديث. وبسبب مقدرتها، اكتسب الرسم الأمريكي الشهرة والاعتراف في أوربّا وفي غيرها من الأماكن.
كانت الأزهار بالنسبة لـ اوكيف مصدر فتنة خاصّة، كما كانت موضوعا مفضّلا في الكثير من لوحاتها. وعندما رسمت هذه اللوحة، اعتبرها الكثيرون عملا ثوريا وتحفة فنّية. وبكلماتها هي، كانت هذه اللوحة نتاجا لما أدركته بعقلها وأحسّته بقلبها.
وقد رسمت الفنّانة في اللوحة زهرتي خشخاش كبيرتين تتفجّر منهما الألوان البرّاقة والساطعة معطية تأثيرا جميلا ومذهلا. واستخدمت في اللوحة اللونين الأحمر والبرتقالي كلونين رئيسيين للبتلات، بينما اختارت للأطراف والحواشي اللون الأرجواني الداكن.
التظليل البارع واللمسات المخملية على البتلات تضفي على الأزهار حيوية وواقعية. واللوحة تبدو أشبه ما تكون بصورة فوتوغرافية. ومن الواضح أن اوكيف اختارت أن ترسم الأزهار في لقطة مقرّبة ومن دون خلفية كي تركّز انتباه الناظر على الأزهار نفسها.
كانت جورجيا اوكيف تعتقد أن الوتيرة المتسارعة لحياة الناس تجعلهم يكتفون بإلقاء نظرة سريعة على الأزهار دون أن يتمعّنوا فيها بما يكفي لتأمّل خصائصها الطبيعية والجمالية.
وكانت تتمنّى أن تمنح الناس الذين يتوقّفون عند المظاهر السطحية الخبرة والإحساس بالجمال الحقيقي للأزهار.
وقد نُقل عنها قولها ذات مرّة: لو رسمت الأزهار بحجمها الطبيعي، أي مثلما تبدو عليه في الطبيعة، لما رأى احد ما أراه فيها. لذا قرّرت أن ارسمها بطريقة مكبّرة. وسيندهش الناس عندما ينظرون إليها بتمعّن، إذ قد يرون في الأزهار ما أراه أنا فيها".
استخدام اوكيف للألوان الفاقعة كانت تريد منه إذهال الناس وتعريفهم بعجائب وسحر الطبيعة. وقد تمكّنت من خلال هذه اللوحة من الإمساك بجوهر الخشخاش بطريقة بارعة ومقنعة.
وهناك اليوم من النقاد من يعتقد أن الأزهار التي رسمتها اوكيف تلخّص ردّ فعلها على تكنولوجيا الصور المقرّبة التي تبنّاها زوجها المصوّر الفوتوغرافي المشهور الفريد ستيغليتز. غير أن هناك من يقول إن الرسّامة وظفت تقنيّات التصوير في لوحاتها مثل القطع والتقريب والتكبير حتى قبل ظهور تكنولوجيا الأفلام الملوّنة التي نعرفها اليوم.
التمثيل الجميل للزهرتين أثار في حينه موجة إعجاب واسعة واعتُبرت اللوحة واحدة من لوحات اوكيف الخالدة.
وإجمالا فإن صور اوكيف عن الأزهار تُعتبر من أشهر لوحاتها. وقد تحدّث النقّاد في العديد من المناسبات عن الأفكار التي كانت تضمّنها أعمالها مثل دورة الميلاد والحياة والموت وقابلية الأشياء للفناء. لكن كان هناك من رأوا في تلك الأزهار رموزا للجنس والأعضاء الأنثوية. كانت جورجيا اوكيف تراقب وترسم الطبيعة بطريقتها الخاصّة. وكان أسلوبها الفنّي نابعا من رؤيتها الشخصيّة. كما كان لقراءتها كتاب كاندينسكي "الروحانية في الفنّ" اثر كبير في تعزيز قناعتها في ضرورة أن تفعل شيئا شخصيّا ومختلفا عمّا يفعله الآخرون.
الأزهار ظلّت مثار افتتان البشر منذ القدم. واستُخدمت لأغراض الزينة والزخرفة ولروائحها وألوانها وجمالها. كما كانت دائما موضوعا للقصائد والأساطير وكانت النساء يتسمّين على أسماء بعضها. وللأزهار ارتباطاتها ورموزها الدينية والروحية كما هو معروف. بعضها يرمز للحبّ أو الزواج والبعض الآخر للنقاء أو الطهر، إلى آخره.
ولأزهار الخشخاش الحمراء، بشكل خاصّ، رمزيّتها في الحياة والفنّ. فقد أصبحت شعارا شعبيّا للحياة الريفية ولفصل الصيف. ولوقت طويل، استُخدمت للأغراض الطبّية والدوائية. وبسبب خواصّها المخدّرة والمنوّمة فإنها تُستخدم كرمز للنوم والنسيان أو اللامبالاة.
وفي الأساطير الرومانية فإن إله النوم يظهر متوّجاً بأزهار الخشخاش أو محاطا بها. وفي الفنّ المسيحي يُستخدم الخشخاش في تصوير آلام المسيح ورمزا للنوم أو الموت.
زهرة الخشخاش معروفة بهشاشتها وضعفها الطبيعي. لذا تستعصي على التنسيق لأنها تجفّ وتذبل بسرعة. غير أن أحدا لا ينكر جاذبية وجمال ألوانها المتناسقة والبديعة.
ولهذا السبب أصبحت حقول الخشخاش موتيفاً مفضّلا عند الرسّام الفرنسي كلود مونيه. وبفضل مونيه، أصبح الخشخاش فكرة رائجة في الرسم منذ ظهور المدرسة الانطباعية. وهناك من يعتبر لوحتيه اللتين رسمهما لأزهار الخشخاش من أعظم الأعمال الفنّية الكلاسيكية. وقد رسم فيهما زوجته وابنيه الكبيرين وهم يجلسون في حقل جميل مملوء بأزهار الخشخاش الحمراء الفاقعة.
ومن أشهر من رسم أزهار الخشخاش أيضا كلّ من فان غوخ وإميل فيرنون وروبرتو لومباردي وغيرهم.

Tuesday, September 28, 2010

لوحات عالميـة – 261

كسـل لـذيـذ
للفنان الاسترالي روبـرت بَنِـي، 1897

روبرت بني إسم لا يتردّد الآن كثيرا في الثقافة وفي الفنّ الاسترالي. لكنه كان قد صنع لنفسه مكانة مميّزة في أوربّا التي عاش فيها أكثر من أربعين عاما قضى معظمها في فرنسا.
وبَنِي مشهور، بشكل خاصّ، بمناظره الباذخة التي صوّر فيها نساءً ينتمين إلى الطبقة الرفيعة ويرتدين ملابس منسدلة ورقيقة تذكّر بالقصائد الرعوية والمشاهد الأسطورية القديمة.
وفي لوحاته تبدو النساء وهنّ يرفلن في ثياب الدانتيل أو يرتحن في المخادع أو غرف النوم أو يسبحن في مياه البحيرات على مقربة من طيور البجع أو البطّ.
من أجمل أعمال روبرت بني هذه اللوحة التي يمزج فيها الرومانسية بقدر من المتعة الحسّية وقوّة الخيال. وفيها تظهر أربع نساء يقفن على شاطئ البحر بينما تكتسي ملامحهن بمسحة من الكسل والخمول. وما يعزّز هذا الإحساس شحوب وبرودة الألوان التي استخدمها الرسّام في اللوحة. الألوان الحمراء بخاصّة تضفي على المنظر هالة من الرّقة والغموض. والمرأة الأكثر إثارة للانتباه في اللوحة هي الثانية من اليمين، بوجهها ذي التقاطيع الجميلة وبنظراتها الهادئة والمتأمّلة.
هذه المرأة كانت زوجة الرسّام وملهمته وموديله المفضّلة. وهي التي ستظهر في العديد من لوحاته في ما بعد. وقد أصبحت المرأة، واسمها جين موريل، جزءا لا يتجزّأ من رؤية روبرت بَنِي عن النساء وكان يعتبرها مصدر إلهامه الأوّل والأخير.
جمال موريل الأنيق وشخصيّتها الآسرة حاضران في كلّ مكان من لوحاته بنظراتها الغامضة وتعابير وجهها التي يصعب قراءتها أو فهمها. لكن في أواخر عشرينات القرن الماضي، تعرّضت موريل لسكتة دماغية حادّة أدّت إلى انسحابها شيئا فشيئا من الحياة العامّة. وعندما أتاه نبأ وفاتها في ما بعد، وهو في استراليا، أصابه حزن شديد ووجد بعض السلوان في الكتابة التي شغل بها نفسه حتى وفاته.
حسّية روبرت بني وفلسفته كانتا محكومتين بنوعية التدريب الذي تلقّاه وبالبيئة التي كانت تحيط به. وقد عمل جاهدا من اجل خلق توازن وانسجام بين طبيعة أسلوبه وتقاليد الرسم الأوربّية. كما استفاد من جماليات الفنّ الحديث وما قبل الرافائيلي وأولى أهمّية فائقة لدراسة أعمال الرسّامين الكبار في عصره.
في البداية، ذهب الرسّام للدراسة في انجلترا. غير أن تجربته هناك كانت مخيّبة للآمال. فقرّر الانتقال إلى باريس، حيث درس على يد الرسّام جان بول لوران ووجد له مكانا في الأوساط الأدبية والفنّية للمجتمع الباريسي. وكانت تربطه علاقة صداقة مع بعض الرموز الثقافية المهمّة آنذاك مثل النحّات رودان والممثّلة سارا برنار والموسيقيّ كلود ديبوسي.
اندماج بني السهل في جماليات الحياة الباريسية أدّى إلى ازدياد قبوله كجزء من فعاليات الحياة الفنّية والثقافية. وكان أوّل رسّام استرالي ينال لقبا تشريفيا من صالون باريس، وهو انجاز غير مسبوق بالنسبة لفنّان مغترب.
كان بَنِي بارعا في رسم البورتريه والحياة الساكنة ومناظر الطبيعة. كما كان مفتونا على الأخصّ بالطبيعة الريفية في فرنسا. لكنه عُرف أكثر من أيّ شيء آخر بلوحاته النسائية المثيرة.
كان موتيف المرأة التي تستحمّ في الماء أو تقف تحت ضوء الشمس يروق كثيرا لـ روبرت بني كما ظلّ يهمن على لوحاته.
ومن الأشياء التي كان يتميّز بها تعامله مع ألوان البشرة التي كان يرسمها بأسلوب حسّاس ومبتكر، بالإضافة إلى البريق الذي يشعّ من لوحاته نتيجة للتفاعل الحميم بين الأضواء والألوان الغامقة.
نجاح بني العالمي على امتداد العقود الخمسة التي قضاها في باريس مكّنه من عرض أعماله في جميع أنحاء أوربّا، كما بادر عدد من المتاحف الرئيسية إلى اقتناء بعضها.
لوحات روبرت بني تتميّز بأناقتها الجميلة، ما دفع بعض النقّاد إلى إعطائها أوصافا أكثر حداثة تتراوح ما بين الانطباعية وما بعد الانطباعية. وهناك من وصف مناظره بأنها دراسات تفصيلية في اللون والضوء وقيل إن مبدعها لا بدّ وأن يكون شاعرا خبيرا بعالم الأحلام.
وفي معظم تلك اللوحات كان الرسّام يحاول الإمساك بلحظات من "الخمول الجميل"، وهو احد التعبيرات التي كان يفضّلها ويستخدمها كثيرا والذي ارتبط بنساء الطبقات المخملية اللاتي كنّ يبالغن في أمور اللباس ويرفضن الأعمال المفيدة كعلامة على تميّزهنّ وتفوّقهنّ.

Tuesday, September 21, 2010

لوحات عالميـة – 260

طبـيب التشـريـح
للفنان الألماني غابرييـل فـون ماكـس، 1869

الانطباع الأوّلي الذي تثيره هذه اللوحة قد يكون غير مطمئن وغير مريح. وقد يساور الناظر شعور خادع أو مبالغ فيه بأنه يرى منظرا مزعجا أو كريها. ولولا عنوان اللوحة لما أمكننا أن نعرف أننا أمام طبيب يستعدّ لمعاينة وتشريح جسد إنسان ميّت.
في اللوحة يرسم غابرييل فون ماكس نفسه على هيئة طبيب تشريح يجلس أمام جسد امرأة شاحبة من أثر الموت. من الواضح أن المرأة ماتت قبل الأوان، وملامحها تشير إلى أنها ما تزال شابّة وجميلة. الجثّة تظهر كاملة في مقدّمة اللوحة وهي مغطاّة برداء ابيض. وحركة يد الطبيب تشير إلى انه قام للتوّ بإزاحة الرداء عن الجزء العلويّ من صدرها.
ملامح الطبيب تبدو مسترخية ونظراته متأمّلة كما لو انه ينظر إلى شيء غامض ومثير للمشاعر. هذه هي اللحظة التي يمسك بها الرسّام في اللوحة؛ اللحظة التي يصبح فيها الجمال نقيضا للزوال والذبول.
صحيح أن المشهد صادم ومؤثّر. لكنّ طريقة تصويره لا تخلو من رومانسية خفيفة وعلى نحو يذكّر بقول إدغار آلان بو أن لا شيء أكثر شاعرية في العالم من موت امرأة جميلة. فهناك تفاعل خاصّ بين الطبيب والجثّة؛ بين شخصية الذكر وجسد الأنثى.
وصحيح أيضا أن روح المرأة غادرت جسدها. لكنّ جمالها لم يبدأ بالاختفاء بعد بفعل التحلّل الطبيعي الذي يمرّ به الجسد الميّت عادة.
الصورة مظلمة جدّا. النور الوحيد في الغرفة هو ذلك المنعكس على جثمان المرأة المسجّى. وهناك جمجمتان تستقرّان على الطاولة إلى الخلف وحشرة تزحف على طرف حامل الجثّة الخشبي.
المشرّح أو الطبيب لم يبدأ مهمّته بعد ولم يباشر عملية تدمير خطوط وتفاصيل الجسد الذي ما يزال جميلا لكنّه غير كامل لأنه جسد ميّت.
من الحقائق المعروفة اليوم، أن العلم، من خلال التشريح، أصبح قادرا على أن يعبر الخطّ الفاصل بين الحياة والموت. لكن التشريح لا يتعلّق بالحياة نفسها، لأن الجثّة لم تعد فيها حياة.
إذن فيمَ يفكر الطبيب؟ هل يريد أن يعرف عن الموت أكثر؟ هل يفكّر في مدى صعوبة قهر عدوّ قاس وعنيد كالموت؟ هل يفكّر في العلاقة بين الموت والأسرار التي تتكشّف لحظة حدوثه؟
هناك في الصورة عدّة عناصر لا تخلو من دلالة. فالناس عادة لا يرتاحون لرؤية صورة عن الموت، لأنهم يخشونه بطريقة غريزية ولأنه يذكّرهم بمصيرهم في النهاية.
كما أن الميّت هنا امرأة ما تزال شابّة. وهذا يتناقض مع الفكرة السائدة بأن الموت مرتبط بالشيخوخة والهرم. وعقل الإنسان ينفر بطبعه من حقيقة أن الشخص يمكن أن يموت وهو ما يزال شابّا وجميلا. لذا فإن احد المعاني التي تتضمّنها اللوحة هو أن الموت أمر مؤكّد وأوانه غير معروف، كما انه يتحدّى تصوّراتنا وأفكارنا عنه.
ويمكن القول أيضا أن اللوحة تثير الإحساس بعالم السرّية والخوف والغموض الذي يكتنف عمليات وطقوس تشريح الجثث.
ولد غابرييل فون ماكس في براغ عام 1840م. كان والده نحّاتا معروفا. وفي بداياته تعلّم ماكس الرسم في فيينا، وفي ما بعد عمل أستاذا لتاريخ الرسم في أكاديمية ميونيخ للفنون.
تغلب على لوحات الرسّام الطبيعة الرمزية والغامضة بسبب اهتمامه بالفلسفة والتصوّف وعلم النفس والتنويم المغناطيسي ونظريات الطبيعة. وقد عُرف عنه انه كان يحيط نفسه بأعداد كثيرة من القرود. وقد رسمها مرارا في لوحاته وأعطاها سمات البشر. ومن أشهر أعماله الأخرى لوحة بعنوان "القرد ناقداً"، حاول فيها أن يسخر من النقّاد ويستخفّ بأحكامهم وما تتّصف به أحيانا من مزاجية وتسرّع.
بعض الرسّامين الكبار درسوا التشريح وحضروا عمليات تشريح الجثث من أجل تقوية مهارتهم في تمثيل جسم الإنسان في رسوماتهم. ومن أشهر من رسموا التشريح رمبراندت في لوحته درس التشريح وتوماس ايكنز في عيادة الدكتور غروس.

موضوع ذو صلة: طبيعة الأشياء

Saturday, September 18, 2010

لوحات عالميـة – 259

ضـوء القـمـر
للفنان البولندي إيغـور ميتـوراج، 1986

ظلّ القمر حاضرا في وعي وذاكرة الإنسان منذ أقدم الأزمنة. وكان وما يزال يقوم بدور المرآة التي تعكس كلّ الأشياء الجميلة على الأرض. وقد تغنّى الشعراء والكتّاب والفلاسفة بالقمر منذ الأزل. وكان دائما مصدر إلهام لأشهر اللوحات والقصائد والأغاني.
في مقطع من قصيدة "الأرض اليباب" يقول تي إس إليوت: في هذه الحفرة المتغضّنة وسط الجبال، في ضوء القمر الخافت، يغنّي العشب فوق القبور الدارسة". ويقول شاعر آخر: الضوء الأخير غادر العالم. وحده ضوء القمر ينام فوق العشب وخلف ظلال الأشجار الطويلة".
وهناك حكمة قديمة تقول إن أجمل الوجوه هي تلك التي تُرى في ضوء القمر عندما يرى الإنسان نصف الأشياء بعينه ونصفها الآخر بخياله".
النحّات إيغور ميتوراج اختار أن يمثّل ضوء القمر بطريقة سوريالية عندما صوّره على هيئة وجه مكسور وساقط على العشب. الوجه يحمل ملامح الشخوص التي تصوّرها التماثيل الكلاسيكية القديمة من العصرين الروماني واليوناني.
في هذا العمل هناك إحساس واضح بالحداثة. لكنه يتضمّن أيضا إشارات إلى الجماليات الكلاسيكية التي أصبحت اليوم جزءا من الماضي.
يمكن أيضا ملاحظة أن أطراف وجه التمثال مكسورة أو متآكلة. وهي سمة تغلب على أعمال ميتوراج النحتية، وكأنه يذكّر بالتلف الذي لحق بالكثير من التماثيل الكلاسيكية بفعل مرور الزمن.
لكن لماذا هذه التسمية الغريبة، أي ضوء القمر؟ هناك أكثر من احتمال. وجه التمثال قد يكون وجه هيرميس إله النور في الأساطير القديمة الذي كان يلجأ إليه الناس عندما يحلّ الظلام كي يعيد لهم الضوء، الذي هو رمز للطريق أو الوجهة الصحيحة.
ويمكن أن يكون الفنّان أراد من خلال التمثال انتقاد الحضارة الحديثة والتحذير من أدوات الدمار التي أصبح أثرها لا يقتصر على الأرض فقط وإنما امتدّ ليشمل الفضاء والكواكب البعيدة.
وربّما أراد الإشارة إلى تضاؤل اهتمام الناس اليوم بالأساطير القديمة التي تتحدّث عن الظواهر الطبيعية ومن ثمّ ضعف ارتباطهم بالقوى العلوية أو الغيبية.
بعض الشعوب القديمة كانت تعبد القمر وترى في ضوئه الأنيس الذي يخفّف الإحساس بالخوف من الليل والظلام والمجهول. والشعوب الشرقية القديمة كالصينيين واليابانيين كانوا يرون في اكتمال ضوء القمر متعة جمالية وروحية تستحقّ أن تُقام من اجلها الطقوس والاحتفالات. ولم يكن مستغربا أن تُنسب أجمل قصيدة عن القمر لشاعر صيني، وأن يكون أشهر من رسم ضوء القمر رسّام ياباني.
اُقيم هذا التمثال على أرضية احد المنتزهات في ولاية ميشيغان الأمريكية. والمنتزه يضمّ مجموعة من الأعمال النحتية، بعضها لنحّاتين مشهورين مثل هنري مور ورودان واولدنبيرغ. وقد انشيء المنتزه في القرن التاسع عشر، وهو يضمّ جداول وشلالات ومروجا بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من النباتات والأشجار.
في العصر الحديث أصبح منظر ضوء القمر يرمز للفقد أو الغياب وأحيانا للتأمّل والحنين. وهذه الأفكار والمشاعر نجد لها صدى في موسيقى بيتهوفن وشوبان وديبوسي وفي لوحات بعض الرسّامين المعاصرين مثل ويسلر وفان غوخ وإدفارد مونك.
إيغور ميتوراج ولد في ألمانيا لعائلة من أصول بولندية. وقد درس الرسم في وارسو وباريس. وفي ما بعد، وتحت تأثير افتتانه بالفنّ والثقافة اللاتينية، ذهب إلى ايطاليا. وهناك قرّر أن يترك الرسم ويمتهن النحت. وميتوراج يُعتبر اليوم من أبرز وأشهر الفنّانين البولنديين المعاصرين. ومنحوتاته موجودة في العديد من المتاحف والمؤسّسات الفنّية وصالات ومكاتب بعض أشهر الشركات العالمية.
وهو يصنع منحوتاته من الرخام والبرونز غالبا. ودائما ما تظهر على شخوصه آثار التلف أو الدمار، فيبدو بعضها برؤوس مكسورة أو وجوه تلّفها الضمادات أو جذوع متصدّعة، بينما يظهر البعض الآخر بلا أيد أو أطراف.
منحوتات ميتوراج، بأطرافها المبتورة وقطعها المتشظّية، قد تكون أكثر من مجرّد محاولة لتشريح الماضي. وربّما يكون لها ارتباط بالتجارب والانفعالات الشخصية للفنّان. وهناك احتمال آخر بأن تكون مظاهر التآكل والتلف فيها تعبيرا عن زمن وجودي أكثر منه تاريخي.
ومن أشهر أعماله الأخرى تمثال لـ ايروس إله الحبّ يظهر فيه معصوب العينين ولا يحمل سهماً كما جرت العادة، في إشارة إلى أن الحبّ أعمى ويختار ضحاياه بطريقة عشوائية.

Friday, September 17, 2010

لوحات عالميـة – 258

انتظــار
للفنان البلغاري فاليـري تسيـنـوف، 2007

بعض الأعمال التشكيلية تنظر إليها فتجذب انتباهك وتأسرك من اللحظة الأولى. وعندما تتأمّلها عن قرب تدرك أنها مختلفة وأنها تتضمّن قدرا كبيرا من الأصالة والابتكار.
وهذا الوصف ينطبق على لوحات فاليري تسينوف.
يكفي أن ترى إحدى لوحاته مرّة، ثم سيسهل عليك بعدها التعرّف على لوحاته الأخرى تلقائيا حتى عندما لا تكون ممهورة باسمه.
والحقيقة انه يصعب كثيرا وصف أعمال هذا الفنّان أو تصنيفها ضمن مدرسة أو تيّار أو أسلوب فنّي بذاته.
صحيح أنها تتضمّن سمات تجريدية وتعبيرية. غير أنها بنفس الوقت لا تخلو من مضامين رمزية.
كأن هذا الفنّان وهو يرسم يريد منك أن تأتي إليه ومعك تجاربك الشخصية والخاصّة. والطبيعة بالنسبة لـ فاليري تسينوف هي أعظم مصادر الإلهام. كما انه يعشق التنوّع في كلّ شيء. وهذا ليس بالأمر المستغرب. فقد ولد في بلغاريا منذ خمسين عاما. والثقافة البلغارية معروفة منذ القدم بتنوّعها وامتزاجها بالعديد من المؤثّرات الحضارية من الشرق والغرب.
لذا تبدو أعماله وكأنها تحمل رسالة حضارية عن أهمّية وثراء امتزاج الثقافات وتفاعلها في ما بينها.
فاليري تسينوف يعتبره الكثيرون اليوم ظاهرة في الرسم البلغاري. وقد درس الرسم في أكاديمية صوفيا للفنون وأقام معارض للوحاته في ألمانيا وسويسرا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوربية. وقد أهّله تميّزه الفنّي لنيل أكثر من جائزة.
لوحات تسينوف إجمالا تتميّز بهدوئها وسكونها الغريب الذي ينعكس على ملامح نسائه الخالدات بوجوههنّ التي تشبه الايقونات. أحيانا يبدين مبتسمات. وأحيانا أخرى حزينات أو متأمّلات، بينما يأخذن الناظر إلى عالم من السحر والغموض يقع على الحدّ الفاصل ما بين الواقع والحلم، وبين الماديّ والروحي.
في هذه اللوحة يرسم تسينوف امرأة تمسك بكأس وتجلس متأمّلة على أريكة.
الألوان ساحرة. اللون الأحمر هو المهيمن هنا. الخلفية مليئة بالأنماط والنقوش والأشكال. طيور، أباريق، أزهار وأشجار.
في الجهة العلوية فواكه حمراء تشبه الكرز. وهناك حصان.
الخيول تتكرّر كثيرا في لوحات تسينوف. هل يكون الحصان رمزا للرجل الذي لا نجد له وجودا في جميع لوحات هذا الرسّام؟
الرموز الطافية والأشكال النقيّة والمجالات اللونية المتراقصة على امتداد مساحة اللوحة تخلق ارتباطات شاعرية وروحية في ما بينها. والمزج ما بين الشكل والمضمون فيه تناغم ومثالية.
من الواضح أن الرسّام يطوّع الإمكانيات التعبيرية للرموز من اسماك ومفاتيح وطيور وقواقع وأوان فخارية وفواكه وأزهار وخيول كي يشير إلى ما هو ابعد من الواقع الملموس.
هل نحن إزاء كشوفات روحية؟ محاولة للبحث عن الجمال في العالم؟
هل تكون لوحات فاليري تسينوف انعكاسا لنظرة الرسّام الفلسفية إلى العالم والتي يحاول من خلالها استكناه أسرار الوجود والبحث عن معنى باطني للأشياء واكتشاف العلاقة بين العوالم المنظورة والخفيّة؟
ثمّة طقوسية وبدائية ورمزية واضحة في لوحات تسينوف. وهي ولا شك تشيع السعادة وتبعث على التفاؤل والأمل. كما أنها تذكّرنا بأن الرسم، مثل الموسيقى، يمكن أن يأخذنا إلى عالم من الأحلام والفتنة.

Thursday, September 16, 2010

لوحات عالميـة – 257

ايفـان الرهيـب يقتـل ابنـه
للفنان الروسي إيـليـا ريـبـيـن، 1873

كان ايفان أوّل حاكم لروسيا يُلقّب بالقيصر. وقد أتى إلى الحكم وعمره ثلاث سنوات. كانت والدته هي الحاكم الفعلي. ولم يتوّج هو حاكما إلا عندما أتمّ السادسة عشرة من عمره.
في بدايات حكمه تبنّى ايفان نهجا إصلاحيا وتحديثيا وأسّس جيشا قويّا واخضع الكنيسة بالكامل لسلطة الدولة.
لكنه لم يلبث أن انشغل بالحروب، فغزا أراضي السويد وليتوانيا وبولندا. ودامت حروبه تلك أكثر من عشرين عاما، ما أدّى إلى إضعاف البلاد وتدمير اقتصادها.
ولكي يعزّز سلطته، أنشأ ايفان البوليس السرّي ووضع على رأسه مجموعة من السفّاحين والمجرمين. وقد بطش هؤلاء بالناس ولم يكونوا يفرّقون بين مذنب أو بريء.
كان ايفان يفرط في الشراب وحياة التخلّع والمجون. وشيئا فشيئا، أصبحت انفعالاته غير متّزنة وأصبح يُظهر ميلا متزايدا إلى العنف.
وعندما ثارت عليه إحدى المدن قام بقتل جميع سكّانها في مذبحة رهيبة ذهب ضحيّتها أكثر من ثلاثين ألف إنسان.
زوجته الأولى كانت قد أنجبت له ستّة أطفال. غير أنها ماتت وهي دون الثلاثين بسبب قسوته وإهاناته المتكرّرة.
وعندما احتجّ رجال الكنيسة على تصرّفاته، قام بقتل بعضهم وتعذيب البعض الآخر. كان هو نفسه منتسبا للكنيسة الاورثوذوكسية. والغريب انه لم يكن يتأخّر عن الصلاة على أرواح ضحاياه من الكهنة والرهبان.
كانت الكنيسة تسمح للرجل بالزواج ثلاث مرّات. لكن ايفان الرهيب استثنى نفسه من ذلك القانون واتخذ له في الكرملين أكثر من ألف محظيّة، رغم انه كان متزوّجا من ستّ نساء. وكان مصير كلّ من يطلّقها من زوجاته إما القتل أو النفي إلى دير ناء ومنعزل.
ويقال انه بعد أن أكمل بناء كاثدرائية باسيل استدعى المهندسين الذين شيّدوها ثم أمر بسمل عيونهم كي لا يبنوا لأحد آخر مثلها.
وكان ايفان يصرّ على أن يشهد أعداؤه عذابهم الأخروي في الدنيا. وكان يُطبّق بحقّهم ما ورد في الإنجيل من أساليب التعذيب والبطش التي تنتظر الخاطئين في الجحيم، من خنق وإغراق وضرب حتى الموت وإعدام على الخازوق وغمر في الماء المغليّ وهم أحياء.
في هذه اللوحة، يصوّر ايليا ريبين حادثة قتل ايفان لابنه الأكبر الذي كان مرشّحا لخلافته على العرش. ففي احد الأيّام سمع الابن زوجته تصرخ. وعندما أتى لاستطلاع الأمر وجد والده يضربها بالسوط. كان ايفان منفعلا بسبب ارتداء المرأة ملابس غير محتشمة. وكانت هي حاملا في شهرها السابع. وقد حاول الابن إيقاف والده وتهدئته. لكنه كان ثائرا. وفي ذروة غضبه تناول آلة معدنية حادّة وضرب بها ابنه على رأسه، الأمر الذي تسبّب في موته عن غير قصد.
وقد رسم ريبين تلك الحادثة بشكل دقيق ومعبّر. علامات الرعب المرتسمة على وجه العجوز تُظهر إحساسه بالصدمة والندم جرّاء ما فعله. واختيار الرسّام لطبيعة المكان الذي تجري فيه الحادثة وكذلك للإضاءة والظلال ولألوان الديكور الداكنة في الخلفية، كلّها عناصر تعبيرية أضافت إلى المشهد الدرامي المزيد من العمق والواقعية.
في اللوحة لا نرى ايفان الساديّ والمتوحّش، بل رجلا مجنونا يبدو وكأنه يرثي نفسه ويتحسّر على ضياع آخر أحلامه.
وقعت هذه الحادثة في السنوات الأخيرة من حياة ايفان الرهيب ولم يعش بعدها أكثر من أربع سنوات. في ذلك الوقت كان قد أصبح عجوزا ضعيفا ومريضا وكانت إصلاحاته قد فشلت. وتحت تأثير أعراض البارانويا، كان يرى نفسه محاطا بالمتآمرين والخونة.
كان الروس، ومن بينهم ريبين، يرون في تلك الحادثة كارثة، لأنها آذنت ببداية حقبة جديدة من المشاكل. فقد أعقبها غزو الجيوش الأجنبية لبلدهم قبل أن تمزّقها الحرب الأهلية.
ربّما لا يتفوّق على ايفان الرهيب في وحشيّته وقسوته سوى جوزيف ستالين الذي يقال بأنه قتل خلال سنوات حكمه أكثر من عشرين مليون شخص وكان يرى في ايفان مثله الأعلى.
وعندما شرع سيرغي ايزنستاين في إخراج فيلمه المشهور عن حياة ايفان الرهيب قال له ستالين: كان حاكما مثيرا للإعجاب، لكنه كان ضعيفا لأن الله وقف في طريقه". كان ستالين يشير إلى نوبات الندم التي كانت تعتري ايفان وصلواته على ضحاياه.
حَكَم ايفان الرهيب روسيا خمسين عاما. وقد بدأ كملاك وانتهى كشرّير. ويشاع انه مات مسموما. وبعد موته دُفن في ثياب كاهن أملا بأن يحصل على عفو وأن تُغفر خطاياه.
وكانت سيرته موضوعا لأكثر من فيلم وبرنامج وثائقي. كما ألّف الكاتب والروائي الفرنسي من أصل روسي هنري ترويا كتابا يقال انه أفضل مرجع يؤرّخ لحياة ايفان وفترة حكمه.

Tuesday, September 14, 2010

لوحات عالميـة – 256

ملكـة الطـوارق
للفنان الجزائري حسيـن زيّـانـي، 2007

في كتب التاريخ والأدب، كثيرا ما يُوصف الطوارق "أو الأمازيغ" بالرجال الزُرق بسبب ميلهم لارتداء ملابس يغلب عليها اللون الأزرق.
وفي تقاليد الطوارق فإن الرجال هم من يرتدي الخمار بينما تكشف النساء عن وجوههن.
والكثير من الأعمال الأدبية ترسم للطوارق صورة لا تخلو من رومانسية بالنظر إلى ارتباط تاريخهم منذ القدم بالصحراء وما ترمز له من جلال وغموض وخطر.
غير أنهم أيضا مشهورون بشجاعتهم وشدّة بأسهم في الحروب والمعارك. وكانت نساؤهم وما زلن يتمتّعن بالكثير من مظاهر المساواة مع الرجال. وفي حالات كثيرة كانت النساء هنّ من يتدرّبن على القتال وخوض المعارك بينما يُعهد للرجال بتولّي الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال.
وبعد دخول الأمازيغ في الإسلام، فقدت نساؤهم بعضا من قوّتهن. لكنّهن ما يزلن يلعبن الكثير من الأدوار الاجتماعية والاقتصادية فيتزوّجن بإرادتهن ويُحترم رأيهنّ في المجالس التي تناقش مسائل القبيلة والمجتمع. كما أن تقاليد الأمازيغ ما تزال تحرّم تعدّد الزوجات وتعتبر ذلك انتهاكا للعرف العشائري.
في هذه اللوحة يرسم حسين زيّاني "تين هينان" أشهر امرأة في تاريخ الأمازيغ. وقد أشار إلى هذه المرأة العديد من المؤرّخين ومن بينهم ابن خلدون في بعض كتبه. ويعود الفضل إلى تين هينان في توحيد قبائل الأمازيغ وتأسيس أوّل مملكة لهم في الجبال تحت زعامتها خلال القرن السابع الميلادي.
وتُروى عن هذه المرأة قصص غريبة تشبه الأساطير وتتحدّث عن حكمتها ودهائها وقدراتها الخارقة. بعض المصادر تذكر انه عندما وصلت جيوش الأمويين إلى المنطقة في بدايات الفتح الإسلامي، خاض الطوارق بقيادة تين هينان حرب مقاومة ضارية ضدّ الجيوش المهاجمة.
وبسبب استماتة الأمازيغ في القتال، اضطرّت الجيوش العربية إلى التراجع والمرابطة في الصحراء لسنوات. لكن مع وصول المدد من مصر، تمّ إلحاق الهزيمة النهائية بالأمازيغ ولم يمض وقت طويل حتى اعتنقوا الإسلام.
في اللوحة تجلس تين هينان على كرسيّ من الخشب المزخرف وتمسك بريش طاووس بينما يحرسها مجموعة من الرجال الملثّمين الذين يحملون تروسا ورماحا طويلة. نظرات المرأة وتعابير وجهها تشي بالجسارة والنبل والاعتداد بالنفس.
بعض التفاصيل في اللوحة مثل الملابس التقليدية والحليّ والمجوهرات الأنيقة التي ترتديها المرأة توحي بأنها هنا لحضور احتفال ما أو مناسبة اجتماعية. جمالها وأناقتها اللافتة تعيد إلى الأذهان ما قيل من أنها استطاعت توظيف جمالها سياسيا لإخضاع قبائل الأمازيغ ودمجهم في كيان واحد.
خلفية اللوحة باهتة وليس فيها تفاصيل كثيرة، ما يدفع الناظر إلى التركيز على موضوع اللوحة الأساسي، أي المرأة.
كان للنساء الأمازيغيات حضور مهمّ زمن الخلافة الإسلامية في بغداد واسبانيا ومصر. وكنّ مشهورات بذكائهن وبجمالهنّ الخاصّ. وكانت والدة احد الخلفاء العباسيين امرأة أمازيغية تُدعى سلامة.
وتاريخ الأمازيغ عموما يحفل بالعديد من النساء المقاتلات. إحداهنّ، واسمها بارشاكو، اشتهرت بارتدائها ملابس الرجال وغاراتها المتكرّرة على القبائل الأخرى. وهناك امرأة مشهورة أخرى اسمها "الكاهنة" عُرفت بشجاعتها ودهائها. وعندما تعرّضت ارض قومها للاحتلال عرضت على قائد الجيش الغازي أن يقترن بها ثم قامت بذبحه ليلة الزواج.
ويقال إن هؤلاء النساء ينحدرن من سلالة النساء الأمازونيات اللاتي تذكر بعض المصادر التاريخية أن موطنهنّ الأصلي كان غرب ليبيا حيث عاش الأمازيغ وما زالوا.
ولد الرسّام حسين زيّاني في الجزائر قبل خمسين عاما لعائلة متوسطة الحال. ومنذ صغره كان يظهر ميلا خاصّا للرسم. كان أوّل ما رسمه بعض مظاهر الحياة اليومية في قريته الصغيرة. ثم أصبح يرسم الطبيعة والمواضيع التاريخية وأحيانا الفانتازية.
كما رسم صورا من تاريخ الجزائر، من أهمّها لوحة للأمير عبدالقادر الذي يوصف بأنه مؤسّس الجزائر الحديثة.
ولوحات زيّاني يغلب عليها الأسلوب الواقعي. وبعضها تذكّر بالرسم الاستشراقي ولوحات ديلاكروا على وجه الخصوص.
ومن الواضح انه يولي أهمّية خاصّة بالتفاصيل والألوان وتفاعلات الضوء والظل.
في بدايات القرن الماضي عثرت بعثة أثرية فرنسية على قبر تين هينان في احد المواقع القديمة في جنوب الجزائر. واكتُشفت داخل القبر عملات وأوان خزفية تعود إلى ذلك العصر. وفي ما بعد نُقلت رفاتها إلى احد متاحف الجزائر العاصمة حيث وضعت داخل صندوق زجاجي مع ثوبها وحليّها.

موضوع ذو صلة: محاربات الأمازون

Sunday, September 05, 2010

لوحات عالميـة – 255

باولـو وفرانشيـسكا
للفنان الفرنسي جـان دومينيك آنغـر، 1816

هذه اللوحة تصور قصّة واقعية حدثت في ايطاليا حوالي نهاية القرن الثالث عشر وأتى على ذكرها دانتي في الكوميديا الإلهية.
في ذلك الوقت، كان التنافس على السلطة والنفوذ على أشدّه بين عائلتي مالاتيستا ودي ريميني. وقد استقرّ رأي كبيري العائلتين على أن تتزوّج ابنة احدهما واسمها فرانشيسكا من ابن الآخر واسمه جانشوتو.
كان الغرض من الزواج تخفيف حدّة الخصومة وزيادة أواصر القربى بين الطرفين. كانت فرانشيسكا على قدر كبير من الجمال والأدب والأخلاق. وكان العريس جانشوتو مرشّحا لخلافة والده في الحكم. غير أن المشكلة انه كان على درجة من دمامة الشكل وجلافة الطباع.
وقد قيل لوالد الفتاة أنها لن تتزوّجه إذا رأته قبل الزواج. لذا من الأفضل أن يُرسَل شقيقه الأصغر باولو كي يلعب دور العريس في ليلة الزواج نيابة عن أخيه جانشوتو.
كان باولو، بعكس أخيه، شابّا وسيما كريم الخلق. لذا عندما رأته فرانشيسكا وقعت في حبّه من النظرة الأولى.
لكنّها أدركت حجم الخديعة عندما استيقظت صباح اليوم التالي ورأت جانشوتو نائما إلى جوارها في السرير. وأحسّت الفتاة بالغضب الشديد بعد أن تبيّن لها انه جرى استغلالها وأنها كانت ضحيّة حيلة ماكرة دبّرها والدها وأهل زوجها.
ومع ذلك قرّرت أن تعتصم بالصبر وتترفّع عمّا حدث كي لا تتسبّب في توتير العلاقة بين عائلتها وعائلة زوجها.
حاولت فرانشيسكا أن تعوّد نفسها على جانشوتو فلم تستطع. وما عقّد المشاكل أكثر أنها كانت ما تزال تحبّ باولو.
بعد فترة كُلف جانشوتو بإنجاز بعض المهامّ في إحدى البلدات البعيدة. وأثناء غيابه قويت علاقة الحبّ بين فرانشيسكا وباولو وأصبح الأخير لا يفارق البيت إلا نادرا. وذات يوم ذهب احد الخدم إلى حيث يقيم جانشوتو وأسرّ له بخبر العلاقة العاطفية بين زوجته وأخيه. فقرّر على الفور أن يعود إلى البيت ليستطلع الأمر ويتثبّت من القصّة بنفسه.
المنظر الذي تصوّره اللوحة هو لحظة وصول جانشوتو إلى البيت. كانت فرانشيسكا تقرأ على باولو مقاطع من كتاب يُفترض انه يحكي قصّة الحبّ غير الشرعي الذي نشأ ما بين لانسيلوت والملكة جينيفر في الأساطير الآرثرية.
وأثناء القراءة يبدو أن باولو تفاعل مع أجواء القصّة فتحرّك من على كرسيّه ليحتضن فرانشيسكا ويقبّلها. كان الاثنان يعتقدان أنهما لوحدهما في الغرفة. غير أن جانشوتو كان قد كمن لهما وراء الستارة وسمع ورأى بنفسه ما حدث وتيقّن من صحّة ما نُقل له. واللوحة تصوّره وقد تملّكه الغضب وهو يهمّ بدخول الغرفة ويستلّ سيفه. الكتاب يسقط من يد فرانشيسكا التي أحسّت بوجوده بينما لا يبدو باولو على علم بما يحدث.
هذه هي ذروة القصّة التي اختار جان دومينيك آنغر أن يرسمها: حالة الإحساس بالخطر والشعور المتبلّد الذي يعتري فرانشيسكا وهي تشيح برأسها إلى الجهة الأخرى بسبب المفاجأة ولأنها تعرف ما سيحصل تاليا. الألوان الساطعة والثقيلة في اللوحة تعمّق الإحساس بدراماتيكية اللحظة وخطورة الموقف. والحيّز الضيّق للغرفة يوحي بالحصار وانعدام أيّ أمل في الهرب أو النجاة.
تقول القصّة إن جانشوتو عندما همّ بقتل أخيه ألقت فرانشيسكا بنفسها عليه، في محاولة لحمايته، فقتلها. ثم تحوّل إلى أخيه فقتله.
اللوحة تحكي عن قوّة الحبّ. لكنّها أيضا تتحدّث عن القوّة المدمّرة للرغبة عندما يتصرّف الإنسان تحت تأثير نزواته العابرة دون التفكير في العواقب. كما أنها تصوّر سطوة الغضب والرغبة في الانتقام عندما يسيطر الانفعال ويغيب العقل.
ذكر دانتي هذه القصّة في كتابه وحكم على باولو وفرانشيسكا بالخلود في الجحيم لارتكابهما الخطيئة واستسلامهما لسلطان الشهوة. وعندما يتجوّل دانتي وفرجيل في الجحيم يظهر لهما فجأة طيف فرانشيسكا وهي تقول إن زوجها أيضا يستحقّ العقاب لأن فعله لا يختلف عن فعل قابيل الذي قتل أخاه هابيل.
المؤرّخون الذين أتوا في ما بعد نظروا إلى فرانشيسكا بعطف وبعضهم اعتبرها بطلة مأساوية. وقد عاب بعضهم على دانتي حكمه القاسي عليها. فهي كانت امرأة عفيفة، وكانت جريمتها أنها أحبّت شقيق زوجها بعد أن خُدعت بالزواج من رجل لم تكن تريده ولا تحبّه. ثم إن زوجها قتلها غيلة ولم تُمنح وقتا لإظهار توبتها.
يقال إن دانتي كان مقرّبا من عائلة المرأة. وعندما طُرد من فلورنسا لم يجد مكانا يلوذ به سوى بيت ابن شقيق فرانشيسكا، وهو نفس البيت الذي ولدت وترعرت فيه. في ذلك المنزل أتمّ دانتي كتابة الكوميديا الإلهية وفيه يصف فرانشيسكا وصفا جميلا ومتعاطفا رغم حكمه القاسي عليها.
قصّة باولو وفرانشيسكا مشهورة كثيرا في الأدب والرسم والموسيقى. الشعراء الانجليز الرومانسيون، مثل كيتس وبايرون، ذكروها في قصائدهم. وبعض النقّاد يرون أن القصّة تمثّل الجانب الخفيف والناعم من الكوميديا الإلهية بما تثيره من إحساس بالشفقة والندم. والبعض الآخر رأى فيها رمزا للتمرّد على السلطة الأبوية والاستبداد الزوجي والمنزلي.
الرسّامون أيضا فُتنوا بالقصّة، ومن أشهر من رسمها كلّ من رودان وجورج فريدريك واتس وروسيتي وفرانك ديكسي وغوستاف دوري.
وفي ما بعد أصبحت هذه القصّة موضوعا لأوبرا ألّفها الموسيقيّ الروسي سيرغي رحمانينوف بعنوان "فرانشيسكا دي ريميني".

Thursday, September 02, 2010

لوحات عالميـة – 254

نقطـة التـقـاء
للفنان الأمريكي جاكسـون بـولـوك، 1952

يقال أن الفنّ يأتي أحيانا من أماكن بعيدة وخفيّة في أعماق النفس. لذا تصبح الكلمات والأفكار التي تحاول تفسيره أو فهمه غير ذات قيمة أو أهمّية. بل إن محاولات التفسير والفهم يمكن أحيانا أن تثقل العمل الفنّي وتجرّده من جماله وخصوصيّته وغموضه.
هذا الكلام ينطبق تماما على لوحات جاكسون بولوك وما تثيره في النفس من دهشة وحيرة. ومبعث الحيرة هنا يكمن في انك لا تستطيع وصف لوحاته ولا اكتشاف ما أودعه فيها من معانٍ ورسائل ورموز. حركات مشوّشة؟ طاقة فيزيائية زائدة؟ رسائل خفيّة؟ لا شيء واضح على وجه التحديد.
البعض لا يجد لوحات بولوك باعثة على السرور أو المتعة. والبعض الآخر يراها تجلب الدوار وتربك الذهن. وهناك من يقول، على سبيل السخرية والمبالغة، أن أيّ طفل بمقدوره أن يرسم مثلها.
ومع ذلك، فـ جاكسون بولوك يُعتبر اليوم احد أشهر الرسّامين في العالم ومن أكثرهم أصالة وتأثيرا. إحدى لوحاته ابتاعها عام 2006 رجل أعمال مكسيكي بمبلغ مائة وأربعين مليون دولار أمريكي، ما جعلها تتصدّر قائمة اللوحات الأغلى في العالم في ذلك الوقت.
ودائما، كان هناك من ينظر إلى لوحاته محاولا اكتشاف أنماطها وزخارفها الجميلة والمشاعر الدفينة التي قد تكون مخبّأة بين ثنايا خيوطها وأشكالها وألوانها الكثيرة.
كان جاكسون بولوك واحدا من مجموعة من الرسّامين الذين ابتكروا أسلوبا جديدا في الرسم يمزج ما بين التجريد والتعبيرية.
لم يكن هؤلاء يرسمون أشياء مألوفة في لوحاتهم كالطبيعة والأشخاص أو الحياة الصامتة، بل فضّلوا بدلا من ذلك التعبير عن انفعالاتهم من خلال توظيف عناصر الرسم نفسها كالألوان والأشكال والأضواء والظلال والخطوط وما إلى ذلك.
وقد تأثّر بولوك وزملاؤه بأنماط الفنّ الأفريقي وبرسومات الكهوف وفنون سكّان أمريكا الأصليين.
كانت الظروف التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية لأوّل مرّة في تاريخ البشرية، سببا في انتشار حالة من الحيرة والتشاؤم والشكّ بشأن مستقبل ومصير البشر. وكان هذا من بين العوامل المهمّة التي دفعت بولوك وأقرانه إلى التامّل في الواقع والنظر إلى الأشياء بشكل مختلف.
كان هؤلاء يؤمنون بأن الفنّ التقليدي لم يعد قادرا على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية. لذا بدءوا في البحث عن شكل فنّي أفضل يمكنهم من خلاله أن يعبّروا عمّا بدواخلهم من مشاعر مضطربة وهواجس مؤرّقة.
وقد فتح التجريد أمام الناس آفاقا واسعة وعلّمهم أن يؤمنوا بحرّية الفنّ دون أن يركنوا إلى الأفكار والأساليب الجاهزة مسبقا.
على أن إحدى أهمّ مميّزات الرسم التجريدي هو انه يمكن أن يوجد في كل زمن وجيل كشكل معاصر من أشكال الرسم. بمعنى انه لا يتقادم مع مرور الزمن ولا يبلى بفعل توالي الأساليب والأنساق الفنية والمدارس التشكيلية.
لوحة بولوك هنا عبارة عن فوضى عارمة من الألوان الصفراء والبرتقالية والبيضاء. هذه الألوان يبدو كما لو أنها تنبثق من الخلفية المظلمة للوحة وتتلاقى أو تتقاطع من خلال الضربات التي تكوّن سلسلة من الخطوط والأشكال والظلال التي يعلو بعضها بعضا.
بعض النقّاد وعلماء النفس يقولون عن حالات الانفعال التي يتعذّر تفسيرها أو فهمها أنها أعراض تشوّش وحيرة وارتباك.
هذا الكلام يكتسب مصداقية خاصّة عند النظر إلى السياق الزماني والمكاني الذي أنتج ظاهرة جاكسون بولوك. فعندما رسم الفنّان أعماله، ومن بينها هذه اللوحة، كانت أمريكا ما تزال تعاني من آثار ونتائج الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة وما رافقها من حملات هستيرية ضدّ الشيوعية والمعسكر الاشتراكي.
كان الفنّانون في ذلك الوقت يراقبون ما يحدث بوجوم وغضب، خاصّة بعد أن تبيّن لهم أن آمالهم وأحلامهم بمستقبل أفضل للبشرية قد تدمّرت ووئدت بفعل جنون الحرب وتهوّر القادة السياسيين. لذا أرادوا من خلال التجريد استبدال العالم القديم الآيل للسقوط بعالم آخر جديد يمكن أن يحتضن تطلّعاتهم ويحقّق أحلامهم بغد أكثر سلاما وأقلّ عنفا.
هذه اللوحة يمكن أن يكون لها معنى ما في واقع الحياة. وربّما يكون معناها كامنا تحت الطبقات المتعدّدة والكثيفة من الألوان والأشكال التي يُفترض أنها انعكاس لإسقاطات قويّة وانفعالات جامحة.
وبرغم غموض اللوحة، إلا أنها تجذب العين بألوانها البديعة والمتناغمة. يبدو خيال الفنان هنا متحرّرا ومنطلقا بلا حدود. ويمكننا أن نتخيّل بولوك وهو يصبّ الطلاء أو يرشّه عشوائيا، ثم يرسم دائرة إثر دائرة ويبني حولها طبقات فوق طبقات من اللون بينما يستخدم أصابعه لتذويب ونشر الطلاء فوق مساحة اللوحة الكبيرة.
ويقال إن الرسّام كان يستخدم السكاكين والعصيّ ويمزج الرمل بقطع الخشب والزجاج المكسور وغيرها من الأشياء الغريبة كي يمنح مناظره نسيجا ثقيلا ومتماسكا.
في بداياته، تعرّف جاكسون بولوك على الفلسفات الشرقية والأفكار الثيوصوفية. وكان قبل ذلك شخصا لا دينيا. لكن علاقته بالمعلّم الروحاني الهنديّ المشهور جيدو كريشنامورتي فتحت أمامه الباب واسعا لتعلّم الأفكار والمفاهيم الروحية المعاصرة.
في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، توقّف بولوك عن اختيار عناوين للوحاته واستبدلها بأرقام، في محاولة لتحريض المتلقّي للدخول مباشرة إلى أجواء اللوحة وصرف انتباهه عن أيّ ارتباطات أو تصوّرات مسبقة قد يوحي بها العنوان.
كان جاكسون بولوك يؤمن بأن الرسّام لا يلزمه أن يتمتّع بمهارات تقنية خاصّة وأن كل إنسان مهيّأ لأن يصبح رسّاما على طريقته.
والمعروف أنه جرّب في بداياته حياة التشرّد والفقر. ولم تحقّق لوحاته النجاح والشهرة إلا في المراحل الأخيرة من حياته.
وقد دعمه بعض النقّاد بينما سخر منه آخرون. وفي الستّينات اختير كأهمّ رسّام لأهمّ حركة فنّية أمريكية ظهرت في القرن الماضي.
ويقال إنه بفضل بولوك وزميله الآخر مارك روثكو وغيرهما من رموز التجريدية الأمريكية، أصبحت نيويورك تحتلّ مكانة باريس في كونها الحاضنة الأولى للفنّ الطليعي في العالم.
غير أن حياته الخاصّة لم تكن سعيدة أو سهلة. فقد عانى كثيرا من نوبات الاكتئاب والإدمان على الكحول والتدخين بشراهة.
وفي آخر سنواته أصبح عاجزا ومشوّش الذهن، وبدا كما لو انه غير قادر على مواجهة أعباء وضغوط الحياة.
وفي صيف عام 1956 قُتل جاكسون بولوك في حادث سيّارة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين.
وقد أسهم موته المأساوي وهو في سنّ مبكّرة في إضفاء طابع أسطوري على شخصيّته وفنّه.

Tuesday, August 31, 2010

لوحات عالميـة – 253

بارسيفـال أو فـارس الأزهـار
للفنان الفرنسي جـورج روشيغرو، 1894

تعتمد أوبرا بارسيفال لـ ريتشارد فاغنر على نصّ أسطورة ملحمية مسيحية تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي وتحكي عن مغامرات فارس آرثري بهذا الاسم.
والقصّة تمتلئ بالمعاني والرموز وتجسّد الصراع بين المسيحية والوثنية، وبين الخير والشرّ، والنور والظلام.
عندما ظهرت هذه الأوبرا لأوّل مرّة عام 1857 لاقت إعجابا كبيرا، خاصّة من الرسّامين الانطباعيين الذين كانوا يجدون في أعمال فاغنر عناصر إلهام للوحاتهم.
كان الرسّامون آنذاك متعطّشين للأفكار والمواضيع الجديدة. وقد فتنتهم براعة هذا الموسيقيّ الألماني الذي أعاد الأساطير العظيمة والحكايات القديمة إلى الحياة من جديد.
وعندما فكّر الفنّان جورج روشيغرو في رسم هذه اللوحة، فإنه كان يطمح لأن يقترب من الجماليات النخبوية للرمزيين وأن يستغلّ الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها في ذلك العصر الرسّامون الانجليز ما قبل الرافائيليين.
في أحد مشاهد أوبرا فاغنر، عندما يصل البطل بارسيفال إلى قلعة الساحرة كلينغسور يقوم الملك بإصدار تعليماته إلى فرسانه بالتصدّي له ومقاتلته. لكن بارسيفال يتغّلب عليهم جميعا ويلوذون بالفرار.
ثم يتابع الملك بارسيفال وهو يتّجه إلى داخل حديقة قصره باحثا عن الكأس المقدّسة، فيستدعي الساحرة كوندري كي تقوم بإغرائه ومن ثمّ إبعاده عن الحديقة.
الرسّام يصوّر اللحظة التي يجد بارسيفال فيها نفسه داخل حديقة رائعة تحيط به مجموعة من النساء الفاتنات اللاتي يتخفّين في هيئة أزهار. وبعد ذلك ينشب نزاع بين النساء حول أيّهن أحقّ أن تظفر بالفارس.
غير أن بارسيفال لا يكترث لنداءات النساء اللاتي تغطّي أجسادهنّ أزهار النرجس والزنبق والبنفسج.
الطبيعة الخفيفة والمريحة لهذه اللوحة من حيث الشكل والمضمون تجعل منها استثناءً عن بقيّة اللوحات المقتبسة عن أعمال لـ فاغنر الذي تغلب على مسرحيّاته الأفكار المظلمة والمأساوية.
ومن الواضح أن روشيغرو تعمّد أن يبتعد عن نصّ الأوبرا كي يبرز الفكرة الرئيسية التي يقدّمها المشهد، وهي أن بارسيفال كان إنسانا محصّنا ضدّ الإغراء لأنه كان عميق الإيمان بالأفكار المثالية والأخلاقية.
عندما عرض الرسّام اللوحة في صالون باريس نال الكثير من ثناء واستحسان النقّاد. كما بادرت الدولة الفرنسية إلى شراء اللوحة لصالح متحف لوكسمبورغ قبل أن تنتقل في ما بعد إلى متحف اورساي.
وقد كيّف روشيغرو هذا العمل بشكل محكم كي يتناسب مع الذوق السائد في ذلك العصر. ومع ذلك تبدو اللوحة حديثة إلى حدّ كبير.
ورغم انه استخدم لرسمها الأسلوب الواقعي، إلا انه أضاف إليها لمسة انطباعية تبدو واضحة من خلال تعامله مع الطبيعة والخضرة ومزجه الرائع والمتناغم للألوان.
نيتشه الذي كان صديقا لـ فاغنر أثنى على الموسيقى، لكنه انتقد الأوبرا واعتبرها عملا رديئا ومحاولة لانتهاك الأخلاقيات الأساسية.
وقد قيل وقتها أن الأوبرا تروّج لفكرة النقاء العرقي وتتبنّى موقفا معاديا لليهود.
غير أنها وجدت لها أنصارا كثيرين في الوسط الموسيقي. فقد أثنى عليها كلّ من الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسيه والألماني غوستاف ماهلر. العلاقة بين الأوبرا والموسيقى من ناحية والرسم من ناحية أخرى وثيقة وقديمة. الكسندر فراغونار، مثلا، رسم أوبرا "دون جوان" لـ موزارت. وغوستاف دوري رسم أوبرا "شمشون ودليلة" لـ كميل سان سونس. بينما رسم كلّ من ادموند ليتون وجون ووترهاوس أوبرا "تريستان وايزولدا" لـ فاغنر.
الرسّام جورج روشيغرو ولد في باريس ودرس الرسم فيها. وقد تخلّى عنه والده وهو صغير فعاش في كنف زوج أمّه. وفي ما بعد تنقّل بين ايطاليا وهولندا وألمانيا وبلجيكا كدارس وسائح. كان مهتمّا في الأساس برسم الأحداث التاريخية. لكنه أيضا رسم الميثولوجيا والطبيعة ومشاهد من الحياة اليومية.
المعروف أن روشيغرو عاش هو وزوجته آخر سنوات حياتهما في الجزائر. وقد أحبّ الرسّام الثقافة المحلية الجزائرية وأعجب كثيرا بالزخارف المعمارية الشرقية.
تجربته في الجزائر يظهر تأثيرها واضحا في العديد من لوحاته التي صوّر فيها الحريم وبعض مظاهر الحياة اليومية. وقد مكث الفنّان في الجزائر إلى أن أحسّ بتقدّمه في السنّ، فعاد إلى باريس ليموت ويُدفن فيها عام 1938م.
ومن أشهر لوحاته الأخرى السلطانة وموت في بابل والمحظيّة وبورتريه سارة برنارد.

Sunday, August 29, 2010

لوحات عالميـة – 252

قريـة عرائـس البحـر
للفنان البلجيكي بـول ديلفـو، 1942

يعتبر بول ديلفو احد الرموز المهمّة في حركة الفنّ الحديث في القرن العشرين. وقد اشتهر بلوحاته السوريالية التي تكثر فيها صور لنساء ذوات عيون كبيرة ومتوتّرة يتحرّكن ويتصرّفن كما لو أنهنّ واقعات تحت تأثير منوّم مغناطيسي. وكثيرا ما يظهرن في محطّات القطار أو يتمشّين داخل مبان كلاسيكية الطابع برفقة رجال غامضين يرتدون القبّعات.
القطارات أيضا من الموتيفات التي تظهر في لوحات ديلفو بشكل متكرّر. ويبدو أن الدهشة لم تفارقه منذ رأى أوّل قطار في حياته في باريس وهو ما يزال طفلا.
ومثل غيره من الرسّامين السورياليين، كان ديلفو يستمدّ مواضيع لوحاته من الأحلام والرؤى. وقد رسم هذه اللوحة اعتمادا على حلم روته له زوجته في احد الأيّام. فقد حلمت أنها رأت مجموعة من عرائس البحر على هيئة نساء يرتدين ملابس طويلة بألوان رمادية وخضراء وهنّ يجلسن قبالة بعضهنّ على كراسٍ مذهّبة في زقاق طويل يقوم على جانبيه صفّان من البيوت الرمادية.
النساء في هذه اللوحة يبدين بلا حراك، بينما يضعن أيديهن فوق ركبهنّ ويحدّقن في المجهول.
الزقاق بدوره يمتدّ إلى آخر اللوحة ويفتح على منظر لشاطئ تحيطه جبال بيضاء. في اللوحة أيضا يظهر رجل وحيد يبدو واقفا قرب جدار في الزاوية التي ينعطف عندها الشارع إلى اليمين. وفي الجانب الآخر من الجدار تظهر عن بعد مجموعة من عرائس البحر وهنّ يقفزن في الماء بعد أن تحرّرن من ملابسهنّّ.
المعنى هنا ليس واضحا تماما. ربّما كان كامنا في العقل الباطن للرسّام وزوجته. واللوحة في النهاية هي محاولة لتصوير حلم يصعب فهمه أو تفسيره.
ولد بول ديلفو في بلجيكا ودرس المعمار والديكور في أكاديمية بروكسل للفنون التي عُيّن في ما بعد مديرا لها.
ويُعرف عنه انه كان مغرما بـ جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. وكان مثله يعشق مناظر الشوارع الصامتة حيث ظلال البشر الذين لا يمكن رؤيتهم.
كما كان معجبا بمواطنه الرسّام رينيه ماغريت وبأسلوب مزجه الواقع بالخيال في لوحاته. ويقال إن ديلفو كان متأثّرا كثيرا بـ ماغريت. في حين يذهب بعض النقّاد إلى أن ديلفو لم يكن في واقع الحال سوى نسخة باهتة عن ماغريت.
بعض لوحات ديلفو تتّسم بغموضها، وفي بعضها الآخر مشاهد من حنين وإحساس بالصمت والأبدية.
وقد زار الرسّام ايطاليا في وقت مبكّر من حياته وأعجب بمبانيها التاريخية وعكَس حبّه للعمارة في العديد من صوره.
لكن لم يكن أحبّ إلى نفسه من رسم النساء العاريات ذوات الصدور الضخمة وهن يتجوّلن على الشواطئ أو في الطرق المزدحمة أو في الأطلال القديمة تحت ضوء القمر، وأحيانا وهنّ يقطفن الأزهار.
في إحدى لوحاته المشهورة بعنوان فينوس النائمة والموجودة في التيت غاليري بـ لندن، يرسم ديلفو امرأة تنام عارية في ساحة قصر مبنيّ على الطراز الإغريقي. وعند رأس المرأة النائمة تقف امرأة عارية وهي تؤشّر بيدها لامرأة أخرى محتشمة تمرّ عند نهاية السرير بمحاذاة هيكل عظمي لإنسان. وعلى الأرضيّة الرخامية نساء عاريات يؤدّين طقوسا غريبة وأخريات يحلّقن في السماء، بينما يضيء المشهد الليلي نور قمر يشعّ من بعيد.
ديلفو قال انه رسم هذه اللوحة في إحدى الليالي التي كانت تتعرّض فيها بروكسل لوابل من قذائف الطائرات أثناء الحرب العالمية الثانية. تلك اللحظات كانت استثنائية في سايكولوجيّتها وفي كمّية التوتّر والدراما التي صاحبتها. ويبدو أن الرسّام أراد من خلال اللوحة الموازنة بين نقيضين: الهدوء الذي يمثّله منظر المرأة النائمة من ناحية والإحساس بالألم والفجيعة الذي تجلبه الحروب من ناحية أخرى. صحيح أن اللوحة مزعجة إلى حدّ ما، لكنها تتضمّن أيضا نوعا من التعبير الشاعري.
كان بول ديلفو شخصا حالما، ولم يكن يحبّ القراءة كثيرا. كما لم يُعرف عنه تديّنه أو انتماؤه إلى أيّ تيّار أو حزب سياسي. وكان يحتفظ في محترفه بمجموعة من الجماجم البشرية التي كان يرسمها في لوحاته. كما كان معروفا بحرصه الشديد على أن يختار بنفسه، وحسب مواصفاته هو، موادّ وعدّة الرسم التي كان يستخدمها.
زوجته التي ألهمته رسم هذه اللوحة ظهرت في العديد من لوحاته بعينيها الواسعتين ووجهها الكلاسيكي. أما نساؤه العاريات فكان يصوغ ملامحهن على ملامح امرأتين أخريين، إحداهما روسية والأخرى سويدية.
ويمكن القول إجمالا إن مناظر ديلفو السوريالية تخلو من أيّ اثر للعنف أو الكوابيس المخيفة. كان عالمه غريبا، لكنّه مسالم نسبيا.
ومن الواضح انه كان يفهم النساء ويتعاطف معهنّ كثيرا. إحدى القصص التي تُروى عنه تقول إنه أحبّ امرأة وهو في سنّ الثلاثين، لكن والديه رفضا ارتباطه بها. وعندما قابلها بالصدفة بعد أكثر من ربع قرن لم يتردّد في الزواج منها على الرغم من انه كان يشارف على الستّين.
توفّي بول ديلفو عام 1994 عن سبعة وتسعين عاما. ومنذ بضع سنوات احتفلت بلجيكا بذكرى مرور مائة عام على مولده.

Wednesday, August 25, 2010

لوحات عالميـة – 251

غزالان يعدوان خائفيَن في ضوء القمر
للفنان الأمريكي كـارل كْنـاتـز، 1932


لكلّ رسّام فردوسه الخاصّ. وبالنسبة للرسّام كارل كناتز، كانت الطبيعة والحيوانات والأزهار جزءا لا يتجزّأ من جنّته الأرضية.
في هذه اللوحة يرسم كناتز غزالين شاردَين في ليل غابة مسكونة بالصمت والثلج ومضاءة بنور قمر شاحب.
المنظر شاعري بامتياز. الألوان باردة، والحركة والمزاج اللذان تثيرهما اللوحة يكمّلان بعضهما. كما أن موضوع اللوحة يتضمّن عناصر يمكن أن تُبنى عليها قصّة ذات نهايات مفتوحة.
في الغابة لا توجد أسوار تحدّ من حركة الحيوان. وضوء القمر يوفّر فرصة للغزلان كي تتجوّل في الغابة ليلا باحثة عن طعام. لكن هذا هو الوقت المناسب أيضا بالنسبة للصيّادين الذين يقتفون أثرها والحيوانات الكاسرة التي تبحث عادة عن فرائس سهلة في الليل.
رسم الفنّان أوّلا أشكالا داخل الفراغات وأقام معمار اللوحة اعتمادا على الخطوط السوداء السميكة. هناك أيضا الخطوط المتعرّجة والمتوتّرة للفرشاة والتي توحي بانكسار الصمت، لدرجة أن الناظر يكاد يسمع أصوات الفرقعة التي أزعجت هذين الحيوانين وأثارت خوفهما.
هذه اللوحة تعكس أسلوب الرسّام في تصميم مناظره واختيار الألوان المناسبة لها. ومن الواضح انه رسم في البداية اسكتشات للوحة ثم قاس المسافات بين عناصرها وحدّد النسب بين هذه المسافات والقيم المختلفة للألوان.
ورغم التنفيذ الهندسي الصارم للوحة، إلا أن خصائصها الشاعرية والروحية تظلّ الأكثر أهمّية.
المعروف أن كناتز رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر غزلانا في الغابة في أوقات مختلفة من اليوم.
وقد واتته فكرة رسم غزلان في الطبيعة في أوائل عشرينات القرن الماضي. كانت طبيعة الحياة في الريف عنصر إلهام له في ذلك. وما كتبه في ملاحظاته يشي بحماسه الكبير للبرّية وحبّه لكائناتها.
ولوحات الرسّام تلك يمكن اعتبارها رمزا لافتنانه بالفكرة. وقد ظلّ منجذبا إلى الطبيعة وغموضها طوال حياته. كان يؤمن بأن الطبيعة مصدر كلّ الفنون وأن للغابات والأنهار والحياة البرّية عموما خصائص روحية وباطنية. وقد عُرف عن كناتز تأثّره بكتابات فلاسفة الطبيعة من أمثال ايمرسون وثورو وبليك.
علاقة الغزال بالرسم قديمة جدّا. إذ يظهر كثيرا في رسومات الكهوف التي يعود بعضها إلى عصور موغلة في القدم. وطبقا لبعض الحضارات الوثنية، يُعتبر الغزال أحد أقدم الحيوانات التي وُجدت على الأرض. وهو يرمز عند الأقدمين إلى الخصوبة وتجدّد الحياة والوفرة. كما أنه معروف بصبره وأناته وبقدرته الفائقة في معرفة الاتجاهات وبكونه حيوانا معمّرا، لذا يعتبره الصينيون رمزا لطول العمر والحياة السعيدة. وفي الأساطير فإن ظهور غزال قد يكون مؤشّرا على وقوع حدث كبير أو مهمّ.
في العصر الحديث، ما يزال الغزال موضوعا مفضّلا عند رسّامي الطبيعة والحياة الفطرية. وقد تكون أشهر لوحة عن غزال هي تلك التي رسمتها الفنّانة المكسيكية فريدا كالو عندما صوّرت نفسها على هيئة غزال صغير تخترق جسده السهام.
درس كارل كناتز الرسم في معهد شيكاغو للفنّ. وقد كان متأثّرا كثيرا بـ سيزان. كما استفاد من أسلوب الرسم الياباني والصيني في رسم وتمثيل الحيوانات والطبيعة.
وكان دائما ما يستشهد بآراء كاندينسكي وموندريان وماليفيتش وغيرهم من رموز الرسم الحديث. كما كان يشاطر كاندينسكي رأيه القائل بأن ثمّة توافقا بين الصوت في الموسيقى واللون والفراغ في اللوحة. لكن من الواضح أن كناتز لم يحبس نفسه في التنظيرات والأمور الفلسفية، بل كرّس كلّ اهتمامه لإنتاج العديد من اللوحات الشاعرية والمعبّرة.
الجدير بالذكر أن كناتز كان مغرما، بشكل خاص، برسم أزهار الليلك التي ظلّ يصوّرها طيلة حياته. كان انجذابه إلى تلك الأزهار غريبا وغامضا، كما لو انه كان يتوق أثناء وجوده على الأرض أن يحصل على ما يكفيه من عبيرها وألوانها. ولم تعطه تلك الأزهار موضوعا للوحاته فقط، وإنما منحته أيضا بعض أرقّ وأجمل ألوانه مثل اللافندر والليلكي والأرجواني.

Monday, August 23, 2010

لوحات عالميـة – 250

سيّـدة بـ جاكيـت اخضـر
للفنان الألماني اوغسـت مـاكـا، 1913

لا يمكن أن تنظر إلى هذه اللوحة الجميلة دون أن تتذكّر ألوان هنري ماتيس أو أجواء لوحات إدفارد مونك. نقاء ولمعان الألوان فيها غريب ومدهش رغم قتامة موضوعها.
كان اوغست ماكا واحدا من أشهر الرسّامين الألمان الذين ظهروا في القرن العشرين. وقد كان معاصرا لـ كاندينسكي، الأب الروحي للمدرسة التجريدية. وكانت تربط الاثنين علاقة وثيقة.
لكن ماكا لم يكن يشارك كاندينسكي وجهة نظره التي تقول بإخضاع الرسم للتفسيرات الغامضة والأفكار الغيبية.
كما لم يكن يهتمّ كثيرا بالقيم والدلالات التجريدية للألوان. كان ينظر إلى اللون باعتباره وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار الخاصّة فحسب. وقد قيل عن ماكا ذات مرّة انه الرسّام الذي أعطى للألوان سطوعها ونقاءها. وكانت الشفافية والترتيب والتناغم هي الأفكار التي تميّزت بها لوحاته.
ومن الواضح أن اوغست ماكا لم يكن يهتمّ بإضفاء سمة روحية على الطبيعة بقدر ما كان يحاول أن يعكس الطبيعة في أعماله بطريقة حيّة ومبهجة. ومثل ماتيس، كان يحبّ الأشكال البسيطة والألوان اللامعة.
في هذه اللوحة يرسم الفنّان خمسة أشخاص، ثلاث نساء ورجلين، في وضع وقوف.
الأشخاص يبدون بهيئة تشبه التماثيل الساكنة وكلّهم يرتدون الملابس الرسمية والقبّعات. الرجلان والمرأتان إلى اليمين واليسار يمسكون بأيدي بعضهم بعضا.
غير أن نقطة الارتكاز في اللوحة هي المرأة التي تظهر في الوسط مرتدية جاكيتا اخضر وقبعة حمراء. الجاكيت الأخضر الغامق هو ما يجعلها بارزة أكثر من الآخرين.
ولد اوغست ماكا في ألمانيا لأب كان يعمل كمتعهّد بناء وأمّ تنحدر من عائلة من الفلاحين.
وقد عاش معظم حياته في ألمانيا. لكنه تنقّل ما بين باريس وروما وسويسرا وهولندا.
في بداياته، درس ماكا في برلين على يد الرسّام لوفس كورينث. ثم لم يلبث أن تعرّف على التكعيبية وعلى فنّ إدفارد مونك.
وأثناء إقامته في باريس، تعرّف على كلّ من ديغا ومانيه وتأثّر بأسلوبهما كما اطّلع على نظريات دافنشي عن الرسم.
ويمكن القول انه يغلب على لوحاته الأسلوب الانطباعي. مع أن بعض النقاد يصنّفون أعماله بالتعبيرية.
طبيعة المكان في هذه اللوحة قد تساعد في معرفة المزاج الذي تصوّره. اللون الأصفر على الأشجار يوحي بأن الوقت خريف. وفي خلفية اللوحة هناك بحر تتوسّطه بعض البيوت.
المرأة بالملابس الخضراء تبدو وحيدة وحزينة. طريقة وقوفها ونظراتها المصوّبة إلى الأرض ترجّح هذا الانطباع.
ترى هل هذه مقبرة؟ مراسم عزاء؟ هل فقدت المرأة شريكها؟ من الملاحظ أيضا أن ألوان ملابس المرأتين الأخريين أكثر نعومة وإشراقا. الأشكال والتفاصيل في اللوحة مرتّبة بعناية والألوان متناغمة بطريقة جذّابة.
في أواخر حياته، زار اوغست ماكا تونس بصحبة صديقه الرسّام المشهور بول كْلي، حيث عملا هناك معا ورسما لوحات تتضمّن موتيفات عن رحلتهما التونسية.
الأجواء الغريبة لشمال أفريقيا كانت عاملا مهمّا في ظهور أسلوب الفنان في توظيف الألوان الساطعة. وفي تلك الفترة بالذات أنجز بعضا من أشهر أعماله التي أصبحت في ما بعد تحفا فنّية مشهورة ومنها هذه اللوحة.
عندما انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى، استُدعى الفنّان اوغست ماكا للخدمة في جيش بلاده واُرسل إلى الجبهة. وبعد أسبوعين، قُتل في ميدان المعركة إثر إصابته بقذيفة مدفع. كان ذلك في احد أيّام شهر سبتمبر من عام 1914 ولم يكن بعد قد أكمل عامه السابع والعشرين.
وقد رثاه صديقه ورفيق عمره الرسّام الألماني فرانز مارك بكلمات مؤثّرة وحزينة. المفارقة هي أن مارك نفسه قُتل هو أيضا في تلك الحرب بعد اقلّ من عامين على رحيل ماكا.
وكانت آخر لوحة رسمها الفنان اوغست ماكا قبل وفاته بعنوان "وداع". وقد صوّر فيها حالة الإحساس بالشكّ والانزعاج التي كانت تؤرّقه وهو يرى مظاهر القلق وعدم اليقين التي كانت تطبع حياة الناس وهم يرقبون نذر الحرب الوشيكة.

Wednesday, August 18, 2010

لوحات عالميـة – 249


الجـواد الأبيـض
للفنان الأمريكي جـورج بيـلـوز، 1922

عندما يُذكر اسم جورج بيلوز فإن أوّل ما يخطر بالذهن هو سلسلة لوحاته الضخمة التي تصوّر مباريات الملاكمة التي تتسّم بأجوائها المظلمة وبما تثيره من إحساس قويّ بالحيوية والقوّة والحركة.
هذه اللوحات أصبحت علامة فارقة في تاريخ الرسم. لكن بيلوز مشهور أيضا بلوحاته التي تصوّر جوانب من حياة الطبقة العاملة في نيويورك والتي يسخر في بعضها من أسلوب عيش الطبقات الثريّة والمرفّهة.
وفي إحدى الفترات، رسم مجموعة من اللوحات التي يصوّر فيها نيويورك وهي مكلّلة بالثلوج والبرَد. وقد اثبت من خلال تلك اللوحات براعته في التعامل مع تأثيرات الضوء وتباين الألوان الناتج عن امتدادات الثلج فوق الأسطح الداكنة لمباني المدينة.
الجواد الأبيض هي إحدى لوحات بيلوز الجميلة والمتميّزة. وقد رسمها قبل عامين من موته المأساوي وهو ما يزال في سنّ الثانية والأربعين. واللوحة تصوّر جانبا من مزرعة في نيويورك كان الفنّان يقضي فيها أشهر الصيف مع عائلته. وكان قد شيّد في تلك البقعة بيتا ومحترفا.
المنظر يمنح إحساسا غامضا بالخريف من خلال استخدام الألوان القويّة والتأثيرات الدراماتيكية لمنظر السحب الكثيفة. ومع ذلك لا يخلو هذا المنظر من لمسة شاعرية تعمّقها السمات شبه التعبيرية والتجريدية للوحة.
ولد جورج بيلوز في اوهايو ودرس في جامعتها ثم أصبح لاعب كرة سلّة محترفا. لكنّه كان يظهر ميلا للفنون والرسم. ومن اجل هذه الغاية انتقل إلى نيويورك حيث انتظم في رابطة طلبة الفنّ فيها.
موهبة بيلوز المبكّرة أدّت إلى تنامي مكانته وشهرته في أمريكا. كما أحدثت تغييرات مهمّة في حياته وعمله. وبدأ يعرف طريقه إلى الطبقات الاجتماعية الميسورة التي كانت تكلّفه برسم بوروتريهات لأفرادها.
بعض النقّاد اليوم يشيرون إلى بيلوز باعتباره احد أكثر الرسّامين الأمريكيين موهبة في الربع الأول من القرن الماضي. وبالإضافة إلى مناظره القويّة والمعبّرة عن نيويورك وتلك التي رسمها لأشخاص يتصارعون، تميّز بيلوز أيضا برسم الطبيعة والبورتريه.
كان الرسّام يعشق الرياضة كثيرا ولطالما اظهر حرصه على مشاهدة مباريات الملاكمة وسجّل أحداثها في العديد من لوحاته. ويمكن القول إن لوحاته بشكل عام توصل إحساسا رياضيا، من خلال ميله لوضع الطلاء السميك والاستخدام التعبيري للون والضوء بطريقة تضفي على مشاهده جوّا من الحيويّة والحركة.
ومن أجمل أعماله الأخرى اللوحة المسمّاة حبّ الشتاء والتي رسم فيها مجموعة من الرجال والنساء والأطفال وهم يلهون في طبيعة ثلجية على أطراف إحدى التلال.
في نهايات حياته انضمّ الرسّام إلى جماعة من الفنّانين الراديكاليين الذين كانوا يميلون إلى الفوضوية في دعوتهم المتطرّفة للحقوق الفردية.
كان بيلوز يؤمن بأن الحرّية الفنّية تسمو فوق الايدولوجيا. وقد أخذ عليه الكثيرون دعمه للتدخّل الأمريكي في الحرب العالمية الأولى عندما رسم مجموعة من اللوحات التي صوّر فيها الفظائع التي ارتكبها الألمان أثناء غزوهم للأراضي البلجيكية.
في لوحاته الأخيرة أصبح الفنّان يركّز على رسم مشاهد من الحياة اليومية. كما وجد من الوقت ما يكفي لرسم زوجته وبناته ومزاولة التدريس في معهد شيكاغو للفنّ.
وقد توفّي جورج بيلوز عام 1925 بسبب مضاعفات عملية إزالة الزائدة الدودية.
ولوحاته تتوزّع اليوم على بعض المتاحف والمجموعات الفنّية الخاصّة في الولايات المتّحدة.