Friday, September 18, 2009

لوحات عالميـة - 211

حالـة إلهــام
للفنان الفرنسي غِـيـوم سِيـنـيـاك، 1911

الذي ينظر إلى هذه اللوحة ويستوقفه تناغم ألوانها ورقّة تفاصيلها قد يظنّ أنها لوحة منسيّة أو غير معروفة لـ ويليام بوغورو. وهذا الانطباع ليس في مكانه تماما، مع أن له ما يبرّره.
فـ غِيوم سينياك كان احد الرسّامين الذين تتلمذوا على بوغورو وتأثروا كثيرا بأسلوبه الأكاديمي وبطريقة اختياره لمواضيع لوحاته.
ومن هنا قرب الشبه بين لوحات الاثنين.
وربّما كان هذا احد الأسباب المهمّة في أن اسم سينياك غير معروف كثيرا اليوم. فلوحاته تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن لوحات بوغورو. وهذه السمة لوحدها كفيلة بأن تجعل منه رسّاما يفتقر إلى الأصالة والتجديد إلى حدّ ما.
لكنْ قد يكون عذر سينياك هو انه لم يجد في زمانه رسّاما جديرا بالمحاكاة والتقليد خيرا من أستاذه الذي لا يتردّد بعض النقاد اليوم في وصفه بأنه احد أعظم الرسّامين الذين عرفهم تاريخ الفنّ.
وعلى كلّ، فقد كان سينياك مشهورا كثيرا في عصره وكان احد الفنانين الذين كانوا يعرضون أعمالهم بانتظام في صالون باريس ونال على بعضها العديد من الجوائز.
من جهة أخرى، كان هواة الفنّ وجامعو التحف الفنية من الأوربيين والأمريكيين مفتونين كثيرا باقتناء مناظره التي لا تنقصها الرومانسية وسعة الخيال.
ومنذ تسعينات القرن الماضي انتعش الطلب مجدّدا على لوحاته في وقت أعيد الاعتبار للفنّ الأكاديمي ورموزه الكبيرة.
والحقيقة أن لوحات سينياك كلها جميلة وتروق للعين، ما يجعل اختيار واحدة منها بالذات أمرا في غاية الصعوبة. والمشكلة الأكبر تتمثّل في أن معظم لوحاته عارية. وحتى في اللوحات الأقل عُريا، عمد الرسّام إلى إلباس نسائه ثيابا شفّافة تكشف عن مفاتنهن أكثر مما تستر.
لكنْ، والتزاما بنهج المدوّنة، استقرّ الاختيار على هذه اللوحة رغم أنها ليست أشهر أعمال الرسّام.
اللوحة تصوّر امرأة شابّة تجلس في حالة تأمّل وسط طبيعة خضراء. ويبدو أن المرأة بانتظار الإلهام الذي يأخذ هيئة ملاك صغير بجناحين وملامح بريئة. الملاك يجلس على الطرف العلوي للكرسي الذي تجلس عليه المرأة، بينما يوشوش في أذنها بكلمات قد تكون المفتاح الذي يساعدها على رسم لوحة أو كتابة قصيدة ما.
وجه المرأة ذو ملامح جميلة تذكّرنا بالجمال المثالي الذي كان الرسّامون يستقونه من النماذج الرومانية واليونانية القديمة.
الألوان هنا دافئة ومتناغمة، والخطوط ناعمة، والملابس المنسدلة مرسومة بطريقة غاية في البراعة والرقّة.
وممّا يلفت الانتباه في اللوحة أيضا الأسلوب المتناسب الذي رسم به الفنّان الكتفين وانثناء الجسد وميلان الرأس قليلا إلى اليسار.
اللوحة ذات لمسة رخامية ناعمة. ويبدو فيها واضحا تأثر سينياك بأسلوب مواطنه الرسّام نيكولا بوسان وبرسّامي عصر النهضة الايطالي الذين كانوا يولون أهمية كبيرة للتوليف المتناغم والتوازن الدقيق والمحسوب بين الخطوط والألوان والظلال.
غير أن بوغورو يظلّ الحاضر الأكبر في كلّ تفصيل وفي كلّ ضربة فرشاة، بل وحتى في الفكرة التي تتناولها هذه اللوحة.
لوحات سينياك الأخرى تصوّر، هي أيضا، نساءً صامتات أو متأمّلات في طبيعة زهرية لا تخلو أحيانا من صور لنوافير وكراسي وأباريق من الرخام.
ومن الملاحظ انه أعطى بعض نسائه شيئا من ملامح نساء ميكيل انجيلو، غير انه وضعهم في قلب الطبيعة كأنما ليخلّد جمالهم الشائك والمثالي.
بعض مناظر سينياك تنطق بالبراءة. وبعضها الآخر لا يخلو من فتنة وغواية.
وربّما لهذا السبب، هي تروق للتقليديين والحداثيين على حدّ سواء.
فكرة التأمّل والإلهام في الرسم تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر ونهايات القرن العشرين.
في ذلك الوقت كان الرسّامون يركّزون على الأفكار والانفعالات الذهنية المختلفة كالتأمّل والصمت والإلهام والتذكّر والعزلة وغيرها من الحالات التي تتناول المسائل العاطفية والروحية.
وأحيانا كانت رسوماتهم مرتبطة بتأثيرات دينية أو شعرية أو فلسفية.
وكان بعض الأدباء والفلاسفة يعتقدون بأن التأمّل في الوجوه الخفيّة للحياة هو أساس الوعي والإبداع.
وبعضهم كان يرى أن الفنّ بحدّ ذاته هو نوع من التأمّل الذي يمتّع العقل ويثري الحواسّ. كما أن الأعمال الفنية العظيمة ليست سوى نتاج للتأمّل الذي يفضي بدوره للإلهام ومن ثم الإبداع.
ومن أشهر فنّاني تلك الحقبة ممن صوّروا التأمّل والعزلة في رسوماتهم كلّ من ويليام همرشوي واوديلون ريدون وغيرهما.

Tuesday, September 15, 2009

لوحات عالميـة - 210

إنسـان فيتـروفيـوس
للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487

هذه اللوحة مهمّة جدّا، ليس فقط لأننا اعتدنا رؤيتها في الكثير من الأماكن، وإنما لأنها أيضا ترمز إلى امتزاج الفنّ بالعلم خلال عصر النهضة، كما أنها توفّر دليلا آخر على عبقرية دافنشي وتنوّع مشاغله واهتماماته.
في اللوحة يصوّر ليوناردو رجلا عاريا في وضعين عموديين متداخلين، بينما تبدو ذراعاه وساقاه في حالة تماسّ مع محيط مربّع ودائرة. وفي أعلى اللوحة وأسفلها سجّل الرسّام بعض الملاحظات التي أراد من خلالها أن يشرح ما قصده من اللوحة.
وعلى الرغم من بساطة الشكل المرسوم فإنه أصبح مع مرور الأيّام احد أشهر الأعمال التشكيلية وأوسعها انتشارا. وكثيرا ما تُستدعى اللوحة عند الحديث عن مواضيع مثل التناغم الداخلي والشفاء الذاتي من خلال اليوغا والتأمّل.
وليس بالمستغرب أن يكون للّوحة هذا الظهور الدائم والمتكرّر في الإعلانات وعلى شعارات المراكز والنوادي الصحّية.
والأساس الذي بنى عليه دافنشي موضوع اللوحة هو فكرة وردت في كتاب للمهندس المعماري الروماني ماركوس فيتروفيوس الذي عاش في القرن الأوّل قبل الميلاد.
كان فيتروفيوس، بالإضافة إلى اشتغاله بالهندسة المعمارية، مهتمّا بالفلسفة وبالأمور الروحانية. وكان يتبنّى فكرة تقول بالتكامل بين شكل الجسد الإنساني والبنى المعمارية. كما كان ميّالا إلى استخدام مصطلحات معمارية لوصف جسم الإنسان، مؤكّدا على أن العمارة الجيّدة ليست في واقع الأمر سوى استمرار لقوانين الطبيعة.
ولطالما اعتبر فيتروفيوس جسم الإنسان نموذجا للكمال وأن شكل أطرافه يتفق مع الأشكال الهندسية الكاملة، أي الدائرة والمربّع.
فلسفة فيتروفيوس وأفكاره الهندسية لاقت رواجا واسعا خلال عصر النهضة الإيطالي. وقد طُبّقت مبادئه وأفكاره في تصميم الكنائس التي روعي في بنائها الأشكال الدائرية، باعتبار أن الدائرة مرتبطة بالقداسة وباكتمال الخَلق وإحكامه. وهو ما كان يقول به فيتروفيوس وغيره من فلاسفة الرومان القدماء.
وكانت تلك الأفكار مصدر إلهام للكثير من الرسّامين. وقد حاول ليوناردو من خلال هذا الرسم المنفّذ بالحبر الأسود توضيح عنصري التكامل والسيميترية اللذين تحدّث عنهما الرومان في العلاقة بين المعمار وجسم الإنسان.
وما ساعد ليوناردو على إتمام هذه المهمّة براعته ومعرفته الواسعة بالتشريح والهندسة المعمارية. واللوحة تعبّر عن فهم الفنان للعلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة. إذ كان دافنشي يعتقد بأن وظائف جسم الإنسان تشبه كثيرا وظائف الكون وتتكامل معها. كما كان يرى في المربّع رمزا للوجود المادّي وفي الدائرة رمزا للوجود الروحي. ولعلّه أراد من خلال اللوحة أيضا أن يؤكّد على العلاقة القويّة والمتبادلة بين هذين العنصرين.
من المعروف أن فيثاغوراس، أيضا، تبنّى أراءً قريبة ممّا قال به فيتروفيوس ودافنشي. كان يرى، مثلا، أن الدائرة مرتبطة بالسماء وبالكواكب التي تدور حول الأرض؛ ما يعطيها، أي الدائرة، رمزية روحية. وهذا ما يفسّر اهتمام الناس بتوظيف الأشكال الدائرية في بناء المعابد والكنائس وغيرها من دور العبادة. بينما المربّع مرتبط بالعالم المادّي، فهناك أربعة فصول وأربعة عناصر وأربعة اتّجاهات.. إلى آخره.
كما كان فيثاغوراس يعتقد أن الرموز والتجريدات الرقمية تشكّل أساسا لفهم العلاقة بين الإنسان والكون، وأن فهم هذه العلاقة بشكل أفضل لا يتحقّق إلا من خلال التأمّل والغذاء النباتي والتمسّك بأهداب الأخلاق والفضيلة.
الغريب أن فيثاغوراس عاش في نفس الفترة التي عاش فيها بوذا. وكلاهما كان معنيا بمسائل التأمّل والتطهير والتقمّص والطبيعة المزدوجة للإنسان.
الجدير بالذكر أن ليوناردو دافنشي لم يكن الرسّام الوحيد الذي حاول تصوير العلاقة بين الإنسان والكون. فقد جاء بعده فنّانون حاولوا تقليد هذه اللوحة والنسج على منوالها، ومن أشهرهم الرسام وليام بليك والنحّات أندرو ليستر.

موضوع ذو صلة: نظرية التطوّر بين داروين ودافنشي