Wednesday, October 24, 2007

لوحات عالميـة - 141‏

بورتـريه اديـل بلـوكبــاور 1
للفنان النمساوي غـوستـاف كليـمـت، 1907

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين كان يعيش في فيينّا عاصمة النمسا تاجر يهودي اسمه بلوكباور.
كان هذا الرجل قد ورث عن والده ثروة طائلة. وكانت له زوجة اسمها أديل، تنحدر هي أيضا من أصول ارستقراطية.
ومثل زوجها، كانت هي الأخرى تتمتّع بالكثير من الوجاهة والنفوذ.
كانت اديل سيّدة حديثة ومتحرّرة، ولطالما أحيت في قصرها المناسبات والحفلات المختلفة وأحاطت نفسها بأعيان وصفوة المجتمع من ساسة وأدباء وفنّاني وموسيقيي ذلك الزمان، وعلى رأسهم الموسيقي ريتشارد شتراوس والرسّام غوستاف كليمت.
كان بلوكباور يحبّ زوجته كثيرا وقد عاش الاثنان حياة هانئة ومستقرّة. ولم تخمد جذوة ذلك الحبّ أو تفتر حتى عندما تبيّن لهما أنهما لن يرزقا بأطفال طيلة ما تبقّى لهما من عمر.
وتعبيرا من بلوكباور عن محبّته لزوجته، كلّف صديقه الفنان كليمت برسم بورتريه لها.
وبالفعل قام كليمت برسم هذه اللوحة التي استغرق انجازها ثلاث سنوات.
وفيها تظهر اديل بلوكباور بمظهر المرأة الفخورة والمعتدّة بنفسها.
ولا يقلل من هذا الانطباع نظراتها الغامضة ولا الشفتان الحمراوان المثيرتان.
وهي هنا ترتدي فستانا يضجّ بالألوان المزركشة، بينما أسندت ذراعيها إلى صدرها.
على أن الملمح الأكثر أهمّية في اللوحة هو طغيان اللون الذهبي على بنائها العام، وهي سمة غالبة على معظم أعمال كليمت.
ويعزى ولع الفنّان بهذا اللون إلى تأثّره بالفنّ البيزنطي الذي كان يعتبر اللون الذهبي رمزا لكل ما هو مقدّس ورصين وفخم.
كما تمتلئ اللوحة بالأشكال الهندسية والديكورية المختلفة والمتداخلة التي تتماهى مع جسد المرأة ومع حركة الألوان المضيئة والزاهية في وحدة واحدة.
وربما يخيّل للناظر انه بإزاء جدارية هيروغليفية أو سومرية، مع كل هذه العناصر الهندسية والأشكال التزيينية والنفحات اللونية الموظفة في هذه اللوحة بطريقة تشي بالنضج التقني وبقدر غير قليل من الإبهار والبراعة.
لم يكن مقدّرا لحياة الرفاهية والنعيم التي عاشها الزوجان بلوكباور أن تدوم طويلا.
فقد توفّيت اديل فجأة بالحصبة وعمرها لا يتجاوز الثالثة والأربعين.
وكانت قبيل وفاتها قد أوصت بأن تؤول ملكية اللوحة بعد وفاة الزوج إلى حكومة النمسا.
لكن بعد موت الزوجة بسنوات قليلة، تلقى بلوكباور ضربة قاسية أخرى أطاحت بكل ما بقي له من أمل في الحياة.
إذ نشبت الحرب العالمية الثانية فجأة، وأثناء الحرب قامت القوّات الألمانية باكتساح النمسا واحتلال أراضيها.
ولأن بلوكباور كان على رأس قائمة المطلوبين باعتباره يهوديا، فقد سارع بالفرار إلى سويسرا كي ينجو بنفسه، مخلّفا وراءه كل ما كان يملك من ثروة وجاه.
وقد قام القادة النازيّون بمصادرة جميع ممتلكات عائلة بلوكباور ثم وزّعوها في ما بينهم كغنائم حرب.
ولم يسلم من النهب حتى القصر الصيفي الذي كانت تملكه العائلة في إحدى ضواحي مدينة براغ.
وكان من ضمن ما نهبه الألمان هذه اللوحة.
في سويسرا عاش بلوكباور حياة تشرّد وفقر. وبما انه لم يخلّف أطفالا، فقد أوصى قبل وقت قصير من وفاته بأن تؤول كافّة ممتلكات العائلة، المصادرة الآن، إلى أبناء شقيقه.
ومرّ وقت طويل تغيّرت خلاله الكثير من الوقائع والأحوال. فقد عادت اللوحة بعد انتهاء الاحتلال الألماني إلى عهدة حكومة النمسا تنفيذا لوصيّة المرأة.
وطوال الستّين عاما الماضية كانت اللوحة، بالإضافة إلى غيرها من أعمال كليمت، تُعرض في احد غاليريهات فيينّا الكبيرة.
لكن في ما بعد ظهرت الوريثة الوحيدة التي بقيت من هذه العائلة، وهي امرأة عجوز كانت قد لجأت إلى الولايات المتحدة ووجدت فيها وطنا ثانيا بعد أن تشردّت العائلة وتوزّعت في المنافي.
ورفعت المرأة، وهي ابنة شقيقة اديل، قضيّة أمام المحاكم تطالب فيها بإعادة اللوحة إليها باعتبارها الوريث الوحيد لعائلة بلوكباور.
وبعد معركة قانونية طويلة أصدرت المحكمة أمرها بإلزام حكومة النمسا بإعادة اللوحة إلى السيّدة التي يناهز عمرها اليوم التسعين عاما.
لكن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ.
ففي العام الماضي باعت المرأة اللوحة على احد غاليريهات مانهاتن بمبلغ 135 مليون دولار لتصبح بذلك ثالث أغلى لوحة في العالم.
أما كليمت نفسه فيعتبر احد أشهر الرسّامين في النمسا والعالم وهو صاحب اللوحة المشهورة القبلـة.
وقد كانت وفاته في العام 1918، وماتت اديل بلوكباور بعده بسبع سنوات.
وهناك الكثير من القصص التي تتحدّث عن علاقة ما كانت تربط الفنان بالسيّدة التي رسمها وخلّد اسمها من خلال لوحته هذه.

Sunday, October 21, 2007

لوحات عالميـة - 140‏

ليلـة مرصّعـة بالنجـوم فـوق الـرون
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ 1888

عُرف عن فان غوخ افتتانه برسم السماء الليلية. وقد رسم هذه اللوحة، بالإضافة إلى لوحتيه الشهيرتين ليلة مرصّعة بالنجوم و ساحة مقهى في الليل، في فترات متقاربة أثناء إقامته في ضاحية آرل الباريسية.
كان فان غوخ يجد في السماء وفي تأثيرات الضوء ليلا مادّة أغرته برسم بعض أشهر أعماله وأكثرها شعبية ورواجا.
في هذه اللوحة الرائعة يحاول الفنان رسم تأثيرات الأضواء المشعّة من السماء وتلك المنبعثة من المصابيح الاصطناعية التي اكتشفت للتوّ آنذاك، محاولا الإمساك بانعكاسات ألوانها وخطوطها وظلالها على مياه نهر الرون الزرقاء.
ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن هذه اللوحة ظلت دائما محطّ اهتمام وإعجاب علماء الفلك الذين درسوها وحللوها ليتوصّلوا إلى استنتاج مؤدّاه أن فان غوخ كان دقيقا في تحديد موقع كل نجم في اللوحة، ما يؤكّد انه رسمها ليلا في الهواء الطلق وفي نقطة ما على ضفّة النهر القريب من منزله.
أكثر ما يلفت الانتباه في اللوحة هو هذا الوهج اللوني الأخّاذ الذي يضيء كلّ جزء وكلّ تفصيل فيها. لا شيء هنا سوى السماء الليلية الممتدّة وهذه الغلالة السميكة والمتوهّجة من النجوم المشعّة التي تغطي صفحة الماء بألوانها الكرنفالية البهيجة والمبهرة.
وفي ما عدا هذا الملمح، يمكن رؤية جسر وصخور وأبراج وأبنية تلوح من بعيد، بالإضافة إلى رجل وامرأة يظهران في مقدّمة اللوحة وهما يتمشّيان على ضفّة النهر، وهو ما يعطي المشهد لمسة واقعية.
كان فان غوخ يحبّ الألوان كثيرا، وكان يعتقد أن الليل أكثر ثراءً بالألوان من النهار لانه يختزن ظلالا لونية مكثّفة من الأزرق والأرجواني والبنفسجي وغيرها.
وقد اعتاد دائما على التحديق في السماء الليلية حيث لا أنوار اصطناعية ولا صخب يمكن أن يصرف اهتمامه عن التأمّل والمشاهدة.
كان يجلس على ضفّة النهر ليلا ويرقب النجوم باهتمام وهي تتحوّل من البرتقالي إلى الأزرق، ومن الأزرق إلى الأرجواني، والعكس.
وكثيرا ما كان ينفر من فكرة رسم السماء مغطّاةً بنقاط بيضاء صغيرة، لان ذلك برأيه لا ينقل صورة السماء بطريقة واقعية ومعبّرة.
ومما يؤثر عن فان غوخ قوله: إن مرأى النجوم يجعلني احلم. وفي الصباح الباكر كنت اطلّ من نافذة المنزل قبل أن تشرق الشمس بوقت طويل. لم يكن هناك سوى نجمة الصبح التي كانت تبدو كبيرة ومتوهّجة".
افتتان فان غوخ اللافت بالليل والنجوم يمكن أن يُعزى إلى حقيقة انه كان يجد في منظر السماء والنجوم ليلا بعض ما يخفّف عنه إحساسه المقبض بالوحدة والاكتئاب.
ثم انه كان إنسانا حالما وحسّاسا وواسع الخيال. وثمّة احتمال بأن منظر الليل والنجوم كان يشعره بوجوده الصغير في خضمّ هذا الكون الفسيح واللانهائي.
وربّما كان يرى في النجوم عالما موازيا لعالمه الخاص، أو انه كان يبحث فيها عن وطن أو ملاذ يهرب إليه من بؤس الواقع وقسوة الحياة.