Monday, December 31, 2007

لوحات عالميـة - 154

لاس هيلانديراس أو أسطورة اراكنـي
للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز، 1657

رسم فيلاسكيز هذه اللوحة في السنوات الأخيرة من حياته. ومنذ ذلك الوقت، ُينظر إليها كأحد أعظم الأعمال التشكيلية التي أنتجها عصر النهضة الأورّبي.
وقد استقطبت اللوحة اهتمام الكثير من النقّاد والمؤرّخين الذين تباينت تفسيراتهم وتحليلاتهم لمضمونها.
وعبر العصور المختلفة حاول الكثيرون "تفكيك" هذه اللوحة في محاولة لكشف أسرارها والاقتراب من عالمها السحري، غير أن ذلك لم يؤدّ سوى إلى زيادة غموضها.
والبعض يعتبر أن هذه اللوحة أشبه ما تكون بلوحة الشطرنج لشدّة إبهامها واستعصائها على أي شرح أو تفسير.
كان فيلاسكيز رسّاما عظيما واستثنائيا وكان سابقا لزمانه بفضل موهبته المبدعة وعقليته الفذّة المفكّرة. وقد رسم لاس هيلانديراس "أو عاملات النسيج بالاسبانية" بناءً على طلب احد أصدقائه في القصر.
واللوحة تتضمّن أسطورة داخل أسطورة. والموضوع الرئيسي فيها استوحاه الرسّام من أسطورة اراكني الإغريقية التي أوردها الشاعر الروماني اوفيد في كتابه التحوّلات .
وتحكي الأسطورة قصّة فتاة تدعى اراكني، كانت بارعة في الرسم على النسيج.
وكانت رسوماتها محلّ إعجاب الناس الذين كانوا يتوافدون من أماكن بعيدة لمشاهدتها وهي ترسم. ولم يكن بعضهم يتردّد في دفع أغلى الأثمان مقابل الحصول على قطعة من السجّاد المزيّن بأحد رسوماتها.
وكان أصدقاء اراكني ومعارفها يلحّون عليها بأن تشكر أثينا "آلهة الحكمة والمهن الحرفية" التي أنعمت عليها بتلك الموهبة. لكنها كانت تردّ دائما بأن لا دخل للآلهة في الأمر، وأنّ مهارتها نابعة من جدّها ومثابرتها وإصرارها على تعليم نفسها بنفسها.
وبلغ من ثقة اراكني بذاتها أنها كانت تجاهر بالقول أن بإمكانها أن ترسم بأفضل ممّا ترسم الآلهة.
وحسب الأسطورة، كان على أثينا أن تتدخّل لكبح غرور اراكني ومعاقبتها على تحدّي الآلهة والتنكّر لنعمتها.
وفي أحد الأيام تجسّدت الآلهة أثينا على هيئة امرأة عجوز. وقالت مخاطبة اراكني: إن غرورك واعتدادك بنفسك اكبر من موهبتك، وأنّ الآلهة لا يمكن أن تتسامح معك أو تغفر لك تجاوزك وسخريتك".
واللوحة تصوّر هذا الجزء من الأسطورة.
في مقدّمة المشهد إلى اليسار نرى النقاش الذي يجري بين أثينا المتخفّية في زيّ امرأة عجوز واراكني "العاصية".
اراكني الممسكة بطرف الستارة الحمراء والمصغية باهتمام لحديث العجوز لا يظهر من تعابيرها أو ملامحها أنها تدرك خطورة العقوبة التي تنتظرها. كما لا يبدو أن الفتيات الأخريات مهتمّات أو معنيّات بما يجري.
وفي منتصف اللوحة، تقريبا، نرى فتاة ترتدي فستانا احمر وتنظر بصمت إلى أسفل. ووضعية جلوسها والطريقة التي تنظر بها هما عنصران قد يكون الفنان وظفهما لإثارة انتباه الناظر إلى أن ثمّة رابطا بين ما يجري في معمل النسيج وما يحدث على المسرح في الخلفية.
مقدّمة اللوحة معتمة نسبيا والإضاءة تتركّز في الخلفية لأنها تحكي الجزء الأهم من الأسطورة. هناك بوسع الناظر أن يرى صورة حيّة عن ما يجري، ويبدو الأشخاص في ذلك الجزء واقفين في وضعية مرتّب لها جيدا ويتحرّكون بطريقة لا تخلو من مسرحية.
في الخلفية يظهر ما يشبه المحراب المزيّن بالنقوش والألوان الجميلة. هذا المنظر الذي لا يخلو من مهابة وجلال يعطي انطباعا بأن هذه البقعة تمثّل المجال المقدّس لأثينا الحقيقية التي تظهر هناك مع مجموعة من وصيفاتها وقد اتخذت هيئة عسكرية وارتدت قبّعة نحاسية وهي تتلو الحكم على اراكني والذي يقضي بأن تتحوّل إلى عنكبوت!
وفي الخلفية أيضا، على الجدار، نرى جزءا مما يفترض انه آخر قطعة نسيج رسمتها اراكني وهي نسخة من لوحة فنّان عصر النهضة الايطالي تيشيان "اختطاف أوروبّا " وهي أسطورة إغريقية أخرى تروي قصّة اختطاف زيوس لأوربّا ابنة ملك فينيقيا بعد أن بهره جمالها.
ترى هل أراد فيلاسكيز من وراء اختيار هذه اللوحة بالذات ووضعها في الخلفية الإيحاء بأن غضب الآلهة على اراكني كان مضاعفا على اعتبار أنها تجرأت على ذكر تجاوزات كبير الآلهة الذي يبدو في مشهد لا يخلو من الحسّية والإثارة؟
ولماذا اختار الفنان أن يضع ذروة الحدث في الخلفية وليس في الجزء الأمامي من اللوحة كما يقتضي المنطق؟
وهل تتضمّن اللوحة رسائل ضمنية من نوع ما، سياسية أو اجتماعية؟
أيّا تكن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، فإن من الواضح أن اللوحة تتحدّث عن طبيعة الفن وعن العلاقة بين الإبداع والتقليد، الإله والإنسان، والطالب والتلميذ. وربّما أراد الفنان أن يقول إن الرسم ذو طبيعة مقدّسة تميّزه عن المهن والحرف الشعبية التي لا يتطلب الإلمام بها الكثير من الإبداع والثقافة.
وممّا لا شكّ فيه أن اللوحة – الأسطورة تنطوي على فكرة أخلاقية وتربوية مهمّة، وهي أن على الإنسان مهما أوتي من علم أو معرفة أو دراية أن يتحلّى بالتواضع وأن يحذر من مغبّة تضخيم الذات وأن يدرك أن هناك دائما من هو أعلم منه وأكثر مهارة وتفوّقا.
الألوان هي إحدى السمات البارزة في اللوحة حيث تبدو على درجة عالية من التناغم والحيوية. ثم هناك الكتل والفراغات التي تذوب وتتداخل مع بعضها البعض في إيقاع متناسق. فكل شخص وكل تفصيل مرسوم في المكان الذي يجب أن يكون فيه، والمسافات والأبعاد محسوبة بدقّة وعناية. وفيلاسكيز كان معروفا عنه براعته في توزيع الكتل واستخدام الألوان وتشكيلها ومزجها.
إن كل لوحة من لوحات فيلاسكيز تثير الأسئلة والنقاشات التي لا تنتهي. وهو كان ميّالا لمزج الرسم بالفكر والفلسفة.
وربّما كان يبغي من وراء ملء مناظره بالرموز الغامضة والإشارات المبهمة أن يؤكّد على أن الرسم فنّ متغيّر بطبيعته، وأن تفسير العمل الفني يتفاوت من شخص لآخر ويختلف ويتغيّر مع تغيّر الظروف والأوضاع.
وهناك اليوم من النقّاد والمؤرّخين من أوقفوا حياتهم على دراسة لوحات فيلاسكيز واستكناه معانيها ودلالاتها وأصبحوا يسمّون بـ "الفيلاسكيزيين" نسبة إلى اسم الفنان.
وأخيرا توحي هذه الأسطورة بأن أصل النسيج يعود إلى تقليد الإنسان ومحاكاته للعنكبوت. ومن اسم "اراكني" بطلة الأسطورة اشتقّ في ما بعد مصطلح "الاراكنوفوبيا" الذي يرمز إلى ظاهرة الخوف المرضي من العناكب.

Thursday, December 13, 2007

لوحات عالميـة – 153

نبـوءات حـافــظ
للفنان الإيراني إيمـان مـالكــي، 2003

لشدّة واقعية هذه اللوحة ووضوح ودقّة تفاصيلها، قد يظنّها الناظر لأوّل وهلة صورة فوتوغرافية.
وهذه النقطة ربّما تثير بعض الإشكالات والتساؤلات. لكن لا بدّ أولا من قراءة اللوحة والمرور سريعا على بعض تفاصيلها.
في اللوحة نرى شقيقتين تجلسان في شرفة منزلهما المطلّ على منظر حضري.
الكبرى تمسك بنسخة من ديوان حافظ الشيرازي بينما راحت الصغرى تحدّق فيها بانتظار ما ستقرؤه من شعر.
وباستثناء السماء الممتدّة التي يختلط فيها الغبار بالغيم، لا توجد في الخلفية الكثير من التفاصيل ما عدا بعض الأشجار والبنايات التي تلوح من بعيد.
وقد يكون الفنان أراد من وراء الاقتصاد في رسم الخلفية تركيز انتباه الناظر إلى الموضوع الأساسي؛ أي الفتاتين والجوّ الذي يوحي به الحوار في ما بينهما بشأن الكتاب.
المشهد فيه إحساس حالم وقدر غير قليل من الرومانسية. والتعابير البادية على ملامح الفتاتين هي مزيج من الحزن والترقّب.
بالنسبة للإيرانيين، فإن حافظ الشيرازي ليس مجرّد شاعر فحسب، بل هو جزء لا يتجزّأ من الروح الإيرانية نفسها. وربّما لا يضاهيه شهرة وذيوعا سوى عمر الخيّام.
وقد بلغ من شعبية حافظ وتعلّق الناس بأشعاره أنهم يسمّونه ترجمان الأشواق ولسان الغيب، في إشارة إلى قدرته على التنبّؤ بالمستقبل وكشف الحُجُب واستشراف المجهول.
ولا يخلو بيت في إيران من نسخة من ديوانه. وقد اعتاد الناس في مناسباتهم الاجتماعية والروحية على استنطاق الديوان لمساعدتهم في معرفة ما سيحمله لهم المستقبل من أحداث سارّة أو محزنة. ويحدث أن يفتح الشخص صفحة من الكتاب بطريقة عشوائية ثم يقرأ ما هو مكتوب فيها بصوت مسموع. وبذا يستطيع، بمساعدة الشروحات والهوامش المرفقة، قراءة طالعه ومعرفة ما يخبّئه له المستقبل.
ولأن أمور الحبّ والزواج، والمسائل العاطفية عموما، تشغل بال المرأة أكثر من الرجل عادة، فإن النساء هنّ الأكثر إقبالا على قراءة تنبّؤات حافظ وتصديقها باعتبارها معجزات وكرامات.
من الأشياء اللافتة في اللوحة ارتداء الفتاة الكبرى ملابس تقليدية محافظة إلى حدّ ما. كما أنها تلبس خاتم الخطوبة، وهذا تفصيل لا يخلو من دلالة. وثمّة احتمال بأن ما يشغلها أمر قد يكون له علاقة بالمسائل العاطفية من حبّ وزواج وخلافه.
ومن حيث الهيئة، تبدو الفتاة الصغرى أكثر انطلاقا وتحرّرا بدليل بنطلون الجينز الأزرق الذي ترتديه والذي برع الفنان في تصوير تفاصيله وخيوطه الدقيقة.
والحقيقة أن كلّ ما في هذه اللوحة واقعي بامتياز. وهي تذكّر إلى حدّ كبير بلوحات فيرمير و بوغورو.
الألوان الباردة والمتناسقة هي أحد ملامح الجمال والجاذبية في اللوحة. كما أن أسلوب الفنان في رسم السجّاد والملابس ووضعية الفتاتين وملامحهما التي لا تخلو من طهرانية، كل ذلك يخلع على المشهد إحساسا بالبراءة والقداسة. وممّا يعزّز هذا الإحساس طريقة وقوف الفتاة الكبرى وانحناءتها الصامتة والمتأمّلة التي اختار لها الرسّام خلفية كاملة من السماء والغيم.
ولا بدّ للناظر إلى هذه اللوحة أن يتخيّل أن الفنان، وهو يرسم، كان يحاول النفاذ إلى العالم الداخلي والخاص لفتاتين تعمر قلبيهما الكثير من الأحلام والتطلّعات. وقد نجح في تصوير مزاجيهما وروحيهما الشابّة من خلال هذا المنظر الأثيري البديع الذي يمتزج فيه الحلم والبراءة بالجمال المتسامي والمثالي.
في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام برسومات إيمان مالكي وانتشرت لوحاته على نطاق واسع وأصبح اسما معروفا في الأوساط الفنية العالمية. ومؤخّرا نال جائزة بوغورو الفرنسية بالنظر إلى التشابه الكبير بين أسلوب الرسّامَين الإيراني والفرنسي.
الجدير بالذكر أن مالكي تتلمذ على يد الفنان الكبير مرتضى كاتوزيان كما درس في كلية الفنون بطهران ومنذ صغره كان يبدي اهتماما واضحا بالرسم.
ومالكي يعتبر الأخير في سلسلة أسماء الرسّامين الإيرانيين الذين نالوا شهرة عالمية، مثل محمود فرشجيان وفريدون رسولي وكاتوزيان وسواهم.
أسلوب مالكي أعاد إلى الواجهة جدلا قديما حول "أصالة" الأعمال التشكيلية الشديدة الواقعية.
فبعض النقّاد يرى أنها تفتقر إلى الروح والتلقائية وأن لا فرق بينها وبين التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الواقع كما هو وبطريقة كربونية.
كما يرى هؤلاء بأن ما يسمّى "تأثير الكاميرا" يكبّل الفنان ويشلّ مخيّلته ويحرمه من التحليق في فضاء الخلق والإبداع الحقيقي.
لكن هناك فريقا آخر يرى بأن الرسومات التشكيلية الواقعية تتوفّر هي أيضا على الكثير من عناصر الإبداع والمتعة، وأن اللجوء إلى الكاميرا أحيانا لا يعدّ أمرا سيئا. "فيرمير" فعل شيئا مثل هذا من قبل بتوظيفه تقنية الغرفة المظلمة وأنتج أعمالا لا يختلف الناس اليوم حول تميّزها وغناها من حيث الشكل والمضمون.
وأيّا ما كان الأمر، يمكن القول إن ألوان مالكي الناعمة ومناظره الحالمة وملامح شخوصه القريبة من القلب تشكّل متعة حقيقية للعين. وإحدى سمات الفنّ الناجح هو انه يوفّر المتعة ويبعث في نفس ووجدان المتلقي إحساسا بالارتياح والبهجة والطمأنينة.

موضوع ذو صلة: ديوان حافظ الشيرازي

Tuesday, December 04, 2007

لوحات عالميـة – 152‏

شمشــون و دليـلــة
للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز، 1610

كلف نيكولاس روكوكس صديقه الفنان روبنز برسم لوحة تتّخذ من قصّة شمشون ودليلة موضوعا لها كي يعلّقها في منزله.
وشمشون، حسب ما تذكر الأساطير، كان بطلا يهوديا يقال انه كان يتمتّع بقوى وقدرات جسدية خارقة.
وتذكر الروايات الانجيلية أن ملاكا ظهر لامّه قبل أن يولد وأخذ عليها عهدا بأن تحسن تربيته فتمنع عنه الخمر ولا تطعمه إلا الغذاء الطيّب وأن لا تقصّ شعر رأسه أبدا.
ويقال إن شمشون كان يصارع أعداءه فينتصر عليهم لوحده مهما كان عددهم وعدّتهم. وتروي بعض القصص كيف انه صارع سبعا ضخما فصرعه، وكيف اقتلع بوابّات مدينة محصّنة بيديه العاريتين، وكيف أباد جيشا بأكمله وليس معه من سلاح سوى عظمة حيوان ميّت! إلى آخر تلك القصص الغريبة.
وقد حاول أعداء شمشون مرارا القبض عليه أو قتله، غير أنهم لم يستطيعوا.
لكن سقوط شمشون تحقّق عندما وقع في حبّ امرأة جميلة تدعى دليلة. وقد رشا أعداؤه المرأة كي تساعدهم في معرفة مصدر قوّته ومن ثم تمكينهم من السيطرة عليه.
وفي إحدى الليالي وبعد عدّة محاولات من المرأة، كشف لها سرّ قوّته المتمثل في شعره الذي لم يقصّ أبدا.
واللوحة تصوّر هذا الجزء من القصّة.
وفيها نرى شمشون بلحيته السوداء وجسده القويّ راقدا في حضن دليلة في ما يبدو وكأنه نهاية ليلة غرامية طويلة.
صدر المرأة ما يزال مكشوفا وعيناها نصف مغمضتين، بينما انهمك شخص بقصّ شعر شمشون النائم على ضوء شمعة تحملها امرأة عجوز.
وفي الخلفية يظهر تمثال لفينوس وكيوبيد في إشارة إلى أن الحبّ كان السبب في المصير البائس الذي انتهى إليه شمشون.
وعلى الباب، إلى يمين اللوحة، وقف بعض الجند حاملين الشموع وقد ظهرت على وجوههم علامات الحماس والترقّب انتظارا لما سينجلي عنه الموقف.
المشهد يحمل لمسة درامية واضحة . وشكل الإضاءة وألوان الملابس والسجّاد ذو النقوش الشرقية والستائر المسدلة على الجدار وملامح الوجوه وانعكاسات اللحم العاري، كلها عناصر تعطي انطباعا بعمق الإحساس بدراماتيكية اللحظة ومصيرية الحدث.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة غموض ملامح المرأة، وليس واضحا هنا ما إذا كانت نظراتها تعبيرا عن الشعور بالانتصار أو الشفقة.
بعد أن ُقصّ شعر شمشون تلاشت قوّته وتمكّن أعداؤه من السيطرة عليه واعتقاله. ثم قاموا بعد ذلك بوضعه في السجن بعد أن سملوا عينيه.
وبعد فترة، أخذ للعمل كمهرّج خلال احتفال للإله داغون. في ذلك اليوم كان المعبد ممتلئا بالناس. ولم يفطن أعداء شمشون إلى أن شعره قد نما وعادت إليه قوّته مرّة أخرى.
وقد طلب من الخادم الذي كان يلازمه أن يجلسه في وسط المعبد. وعندما وصل إلى هناك وقف بين العمودين اللذين يسندان السقف وهزّهما بعنف ليتقوّض المعبد ويموت آلاف الناس تحت ركامه بمن فيهم شمشون الذي كان يردّد جملته المشهورة "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ!".
قصّة شمشون ودليلة كانت وما تزال موضوعا للكثير من الأعمال التشكيلية والسينمائية والأدبية.
والدرس الذي تقدّمه القصّة هو أن جمال المرأة قد يكون أحيانا مصدر خطر مميت، وأن الرجل مهما كان قويّا فإن امرأة جميلة بإمكانها أن تروّضه وتعرف نقاط ضعفه وان تستغلّها إلى الحدّ الذي يمكن أن يتسبّب في شقائه وربّما نهايته، خاصّة إن كان الرجل من النوع الذي ينقاد للشهوة بسهولة.
بعض الروايات تقول إن دليلة كانت قد مشت في إثر شمشون محاولة خطب ودّه والتقرّب منه، غير أنه كثيرا ما كان يعرض عنها ويتجاهلها. لكنها بعد فترة أصبحت خليلة لأحد أعتى أعدائه.
وقد استخدمها هذا الأخير للإيقاع بخصمه اللدود. ولما عادت إلى شمشون كان قلبها يشتعل غيظا وحقدا عليه، تحدوها الرغبة العارمة في الثأر لكبريائها بالانتقام منه.
بعد وفاة روكوكس، مالك اللوحة الأصلي، ضمّت إلى مجموعة ليكتنشتاين في فيينا. وفي العام 1980 بيعت اللوحة إلى الناشيونال غاليري في لندن بمبلغ خمسة ملايين جنيه استرليني. ومنذ ذلك الوقت يثور الكثير من الجدل والتساؤلات حول اللوحة. وهناك من النقاد والمؤرّخين من يجادل بأن اللوحة الموجودة في الناشيونال غاليري اليوم ليست سوى نسخة مزيّفة عن اللوحة الأصلية التي رسمها روبنز منذ أربعمائة سنة.

موضوع ذو صلة: نساء خطرات

Sunday, December 02, 2007

لوحات عالميـة – 151‏

صباح الخير مسيو كوربيه
للفنان الفرنسـي غوستـاف كـوربيـه، 1854

ينقسم النقاد كثيرا حول غوستاف كوربيه. بعضهم يعتبره رسّاما موهوبا. والبعض الآخر يعزو شهرته وذيوع اسمه إلى نرجسيّته وفوضويّته. وثمّة من يزيد على ذلك بالقول إن كوربيه كان فنانا إباحيا ومستفزّا بل وعديم الحياء بدليل لوحتيه "النائمتان" و "أصل العالم".
لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه" هي أشهر أعماله على الإطلاق. وقد بلغ من شهرتها أن العديد من الحركات الاشتراكية في العالم استخدمت اللوحة في أدبيّاتها واعتبرت مضمونها ترجمة للشعارات الاشتراكية العتيدة التي تدعو إلى المساواة والحرّية والعدالة.
في اللوحة يصوّر كوربيه حادثة لقائه مع الثريّ الفريد بروياس الذي ُعرف برعايته للفنون وتشجيعه للفنانين.
مكان المقابلة طريق ترابي في منطقة ريفية تحيطها الأشجار والمزارع الخضراء تقع على مقربة من منزل بروياس.
إلى اليمين يبدو كوربيه بمظهره البسيط حاملا أدوات الرسم فوق ظهره. وفي مواجهته يقف بروياس ذو المظهر الأنيق الذي يشي بمكانته وطبقته. وخلف بروياس يقف خادمه الذي يحمل عباءته وأشياءه الأخرى.
لغة الجسد في هذه اللوحة مهمّة ولها دلالاتها. فالرجل النبيل وخادمه يخلعان قبّعتيهما احتراما للرسّام الذي يبادلهما التحيّة بمثلها.
لكنّ كوربيه لا يتنّحى عن الطريق ولا يخفض رأسه بل يرفعه بطريقة مسرحية علامة الاعتزاز والثقة بالنفس، وكأنه يقول لبروياس: لست أنت السيّد وأنا بالتأكيد لست خادما عندك. صحيح أنني فقير لكني في النهاية لست بأقلّ شانا من النبلاء والأغنياء".
إن التفاصيل الصغيرة في هذه اللوحة لها أهميّتها. شكل القبّعات واللحى والعصي والأحذية وكذلك إيماءات الجسد، كلّها تحمل دلالات الطبقة التي ينتمي إليها كلّ شخص كما تتضمّن معاني السيادة والخضوع التي يفرضها التفاوت الاجتماعي في المنزلة والطبقة.
لكن كوربيه المتمرّد لا يعترف بهذا كله. لقد رسم نفسه على هيئة عملاق ضخم الجثة يشمخ برأسه في الهواء في مواجهة شخصين ضئيلي الحجم ولا حول لهما ولا قوّة.
انه يعتبر أن حادثة لقائه بالنبيل تستحقّ أن تسجّل وان يخصّص لها لوحة. وهو لا يأبه كثيرا بحقيقة أن بروياس يستطيع أن يوفّر له الدعم والرعاية أسوة بغيره من الفنّانين. وكلّ ما يهمّه هو أن يظهر نفسه في اللوحة بمظهر الرجل الفخور والمعتدّ بنفسه والمملوء ثورة وحنقا على التقاليد والأعراف الطبقية التي كانت سائدة في فرنسا في ذلك الوقت.
وإمعانا في الزهو والإعجاب بالذات، اختار للوحة هذا العنوان الغريب الذي يريد من خلاله أن يوحي بأن النبيل هو الذي بدأه بالسلام وليس العكس.
إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ رغم بساطة خطوطها وخلوّها من الألوان المعبّرة، وإن كان تمثيل الظلال فيها ممّا يسترعي الاهتمام.
ممّا يؤثر عن كوربيه قوله لأحد أصدقائه: في مجتمعنا المتحضّر، من الضروري بالنسبة لي أن أعيش كشخص همجي. يجب أن أتحرّر حتى من الحكومات. إنني أتعاطف مع قضايا الناس ويجب أن أخاطبهم مباشرة".
إن احتقار كوربيه الواضح للطبقة البورجوازية كان احد مظاهر تمرّده على الكثير من قيود المجتمع وأعرافه المتوارثة.
وقد بلغ به التحدّي أن رسم لوحة ضخمة الحجم يصوّر فيها مراسم جنازة أحد أعمامه، وقد ملأ اللوحة بصور لأناس من الفقراء ومن عامّة الناس. ومثل هذا النوع من اللوحات الكبيرة والفخمة كانت تخصّص لتصوير الملوك وعلية القوم في ذلك الزمان.
في القرن التاسع عشر، أي زمن كوربيه، سادت الفكرة التي تنادي باستقلال الفنّان. وتزامن هذا مع ظهور البوهيمية التي جاءت كردّ فعل على تلاشي رعاية الدولة للفنون. وقد كان كوربيه جزءا من مجتمع من الكتّاب والموسيقيين والرسّامين الذين تبنوا الأفكار البوهيمية كأسلوب حياة، وكان يجمع بينهم الفقر وحبّ المغامرة والعصيان السياسي وكراهيتهم الشديدة للسلطة وللطبقة البورجوازية.
ولم يكن كوربيه يخفي تعاطفه مع الحركات الثورية التي كانت تنادي آنذاك بالإطاحة بالنظام الملكي. وفي ما بعد أصبح عضوا في اللجنة التي تولّت حكم باريس لفترة قصيرة في العام 1871 م. وبعد أن ُحلّت اللجنة عوقب على أنشطته السياسية بالسجن قبل أن ينفى إلى سويسرا.
اليوم ُينظر إلى غوستاف كوربيه كأحد المؤسّسين الأوائل للحركة الواقعية في الرسم، في زمن كانت السيادة فيه للأساليب الرومانسية والنيوكلاسيكية.

موضوع ذو صلة: صورة الفنّان عن نفسه

Wednesday, November 28, 2007

لوحات عالميـة – 150‏

شابّ يجلس على صخرة أمام شاطئ البحر
للفنان الفرنسـي إيبـوليت فـلانـدران، 1855

في هذه اللوحة، المألوفة إلى حدّ ما والمثيرة للمشاعر، نرى شابّا يجلس فوق صخرة على شاطئ البحر وقد نكّس رأسه إلى أسفل وأسلم نفسه لنوبة تفكير عميق.
الجوّ العام للمشهد يعطي شعورا بالوحدة واليأس والحزن العميق.
ولا بدّ وأن الشاب أتى إلى هذا المكان المنعزل والهادئ بنفس مثقلة بالهموم والآلام والتحدّيات.
إنه هنا في مواجهة مع نفسه وليس أمامه سوى البحر والأفق الممتدّ .. والصمت.
هناك أيضا الهدوء الغامض والحالة التأمّلية التي تطبع المشهد.
لكن أهمّ ما يلفت الانتباه في اللوحة هو أن الشاب يبدو عاريا. غير أن العري هنا جزئي ومحسوب بدقّة بحيث لا يحمل أية إيحاءات ايروتيكية أو حسّية قد تصرف ذهن المتلقي بعيدا عن الموضوع الأساس.
ولهذا السبب عمد الرسّام إلى حجب المناطق الحسّاسة في جسد الشاب وركّز على تمثيل الرأس واليدين والقدمين بأسلوب شديد الواقعية.
ثم هناك وضعية الجلوس في اللوحة. فالشّاب يجلس بهيئة قريبة من هيئة جلوس الجنين في بطن أمّه.
هل لهذه الجزئية مغزى ما؟
قد يكون الفنّان اختار هذه الوضعية لكي يؤكّد على حالة اليأس التي تتملّك الشاب وتوقه اللاإرادي للعودة إلى طور التكوين الأوّل، بعد أن عجز عن مواجهة مشاكل الحياة وهمومها الكثيرة.
إن الانفعالات التي تثيرها اللوحة بالغة النقاء والشفافية ولا تخلو من دلالات نفسية وروحية عميقة، رغم أن مشهد العُري في حدّ ذاته قد يفاجئنا وربّما يثير امتعاضنا لأوّل وهلة.
إن الإنسان لا يمكن أن يواجه مصاعب الحياة بمفرده، بل لا بدّ له من سند ومعين يؤازره ويقف إلى جانبه ويخفّف عنه بعضا من همومه.
هذا هو أحد الدروس المهمّة التي تقدّمها اللوحة.
من جهة أخرى وعلى مستوى الشكل تحديدا، يمكن النظر إلى هذه اللوحة باعتبارها دراسة تحليلية للجسد الذكوري الذي تعامل معه الفنّان كموضوع جمالي وصوّره بطريقة لا تخلو من الرقّة والشاعرية.
وهذا لا يقلل من أهمية المضامين الداخلية، الروحية والسيكولوجية، التي تنطوي عليها اللوحة.
لم يكن إيبوليت فلاندران من الفنانين الذين يميلون إلى رسم المناظر الايروتيكية أو العارية. فقد كان شخصا شديد التقى والتديّن وكانت تغلب على لوحاته المواضيع الدينية والأسطورية.
ورسوماته بشكل عام تتّسم بالصفاء النفسي والنفحة الروحية المشوبة بقدر من التأمّل والغموض الحالم.

موضوع ذو صلة: جماليات الحزن

Saturday, November 24, 2007

لوحات عالميـة – 149‏

رُعـــاة أركــاديـــا
للفنان الفرنسـي نيكـولا بُـوســان، 1627

تستمدّ هذه اللوحة المشهورة موضوعها من قصّة أسطورة، أو بالأحرى من مقطع قصيدة للشاعر الروماني فرجيل الذي عاش قبل الميلاد يتحدّث فيه عن الرعاة الأركاديين "نسبة إلى أركاديا".
وأركاديا منطقة في اليونان عُرفت في الأزمنة السحيقة بسهولها الخصبة وتلالها الخضراء وحدائقها الغنّاء. كما اشتهرت بنهرها الذي أتى على ذكره الشاعر الانجليزي كولريدج في إحدى قصائده.
كانت أركاديا بمثابة الفردوس المفقود أو اليوتوبيا التي طالما تحدّث عنها الشعراء والفلاسفة وكان الوصول إليها أمرا في غاية الصعوبة إذ كانت تحيطها الجبال الوعرة من مختلف الجهات.
وفي أركاديا كانت تكثر البحيرات والغدران والمروج والغابات. ولم تكن سكناها مقتصرة على البشر وحدهم، بل كان يعيش معهم مخلوقات أخرى مثل عرائس البحر وحوريات الغابات وملكات الليل والجياد المجنّحة بالإضافة إلى عدد غير قليل من الآلهة.
في ذلك الزمان كان أهل أركاديا يشتغلون برعي الماشية.
لم يكن يكدّر صفو حياتهم شيء، وكانوا يمضون جلّ وقتهم في عزف الموسيقى والغناء والرسم.
ومع الأيام أصبحت موسيقاهم محلّ تقدير وإعجاب الشعوب اليونانية كلها. كما وجد الشعراء في تلك الموسيقى مصدرا يستلهمون منه قصائدهم وأشعارهم.
وكان من بين هؤلاء فرجيل الذي كتب قصيدة أجراها على لسان الموت وكيف انه موجود "حتى في أركاديا".
الفنان نيكولا بوسان اقتبس هذا الجزء من القصيدة واستلهم دلالته كمضمون لهذه اللوحة التي تعتبر أشهر لوحاته وأكثرها انتشارا.
كان بوسان رسّاما وشاعرا وفيلسوفا. وكان يستمدّ مواضيع لوحاته من آثار وأساطير العالم القديم.
وقد وجد في قصّة أركاديا موضوعا يتساوق مع ميله لتصوير الميثيولوجيا. ثم إنه عاش في القرن السابع عشر، وهو العصر الذي كان يتّسم بشيوع الأفكار والتقاليد الرعوية في فرنسا، تماما مثلما كان عليه الحال في أركاديا، عندما كان الناس يقبلون على الموسيقى والأشعار العاطفية والملحمية.
في اللوحة نرى أربعة رعاة، ثلاثة رجال وامرأة، يتأمّلون قبرا مبنيّا من الحجارة في بقعة نائية. ويبدو الرعاة الأربعة وهم يحاولون تهجئة جملة كتبت على القبر باللاتينية تقول: حتى في أركاديا أنا موجود".
من المفترض أن الرجل الميّت كان يعيش في أركاديا. وبيئة المكان نفسه من حجارة وشجر وخلافه تعطي انطباعا عن حضارة موغلة في القدم. حتى هيئة الأشخاص ولباسهم يبدو متناغما مع طبيعة المكان.
من الأشياء الملفتة في اللوحة منظر احد الرعاة الذي يبدو جاثيا على ركبته ومشيرا بإصبعه نحو القبر وهو يحاول قراءة العبارة المنقوشة على جداره.
ثم هناك الراعي الثاني إلى اليسار الذي راح يخاطب المرأة ذات التقاطيع التمثالية الجميلة كما لو انه يطلب منها قراءة ما هو مكتوب على القبر. والطريقة التي تنظر بها المرأة إلى ما يجري ربّما تشي بأنها هي الشخص الذي يعوّل عليه الباقون مهمّة فكّ الأحرف المكتوبة على القبر.
من الواضح أن المشهد يصوّر لقاءً مباشرا مع الموت. أما الانفعالات المرتسمة على وجوه الشخوص فيغلب عليها الشعور بالمفاجأة أكثر من كونه شعورا بالرهبة أو الخوف.
والفكرة التي يريد الفنان إيصالها من خلال اللوحة مباشرة وواضحة. إنه يقول إن الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة هي أننا نولد ثم نموت، وأن لحظات السعادة في الدنيا قصيرة وعابرة. وحتى عندما نكتشف مكانا نشعر فيه بالسعادة وراحة البال، مثل أركاديا، فإننا يجب أن نتذكّر أن هذا المكان محكوم هو أيضا بالفناء والتلاشي في نهاية المطاف.
وبهذا المعنى فإن أركاديا ليست أكثر من ملاذ مؤقّت يلتمس فيه الإنسان بعض السعادة والراحة، لكنه في النهاية لا يوفّر حلا واقعيا يخفّف عن الإنسان ثقل هاجس انشغاله بالطبيعة الموقّتة للحياة وحتمية الموت.
وهذه هي الفكرة التي سنجد صداها يتردّد في ما بعد في أعمال رسّامين آخرين جاءوا بعد بوسان مثل ايشر و ماغريت و فريدريش و باكلين وسواهم.
لقد كُتب عن هذه اللوحة الكثير. وثمّة قصص متواترة عن أسرار خفيّة ورموز غامضة قيل إن الفنان أودعها فيها.
وفي بعض الأوقات راجت أقاويل عن ارتباط اللوحة ببعض الجماعات والمنظمات السرّية والمغامرين الباحثين عن الكنوز الدفينة.
من الواضح أن الفنان خطط لوحته هذه بعناية، كما أن استخدامه للألوان الشفّافة والأشكال الواضحة في اللوحة ينمّ عن براعة غير عادية.
وليس بالمستغرب أن تروق هذه اللوحة للفلاسفة والشعراء بالنظر إلى مضمونها الفلسفي والوجودي.
مما يجدر ذكره أن بوسان عاش معظم حياته في ايطاليا التي بُهر بشواهدها الاثارية ومعالمها النحتية العظيمة.
ولهذا السبب كان يرى الأشياء بعيني نحّات، وكان يردّد دائما أن الفنّ العظيم هو الذي يخاطب العقل لا الحواسّ.

موضوع ذو صلة: مناظر من أركاديا

Wednesday, November 21, 2007

لوحات عالميـة - 148‏

منظـر لـ ديـلـيـفـت
للفنان الهولنـدي يـوهـان فيـرميــر، 1660

لوحة أخرى لـ فيرمير يعتبرها الكثير من النقاد ومؤرّخي الفن احد أفضل الأعمال التشكيلية الغربية التي تصوّر طبيعة الحياة في مدينة بحرية.
بل أن الروائي الفرنسي مارسيل بروست يعتبرها أجمل لوحة وقعت عليها عيناه.
والمدينة التي اختارها فيرمير موضوعا لهذه اللوحة هي ديليفت، مدينة الفنان التي ولد فيها وعاش وتوفّي.
وفي العصور اللاحقة أصبح اسم هذه المدينة مرادفا لاسم هذا الفنان العظيم الذي خلـّد في رسوماته الكثير من مظاهر الحياة اليومية فيها، ابتداءً من البيوت ذات الديكورات الزخرفية المتوهّجة وانتهاءً بالوجـوه التي طالما أحبّها وألفها.
رسم فيرمير هذه اللوحة حوالي منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي شهدت ذروة ازدهار الفنون والثقافة في هولندا.
في ذلك الوقت، كان فيرمير يعتبر ثاني أشهر رسّام هولندي بعد رمبراندت، وكان رسم المدن تقليدا شائعا لدى عدد غير قليل من الرسّامين الهولنديين.
ومن الواضح أن فيرمير بذل جهدا كبيرا في رسم اللوحة التي تشهد كل تفاصيلها بقوّة ملاحظة الفنان وبراعته في الإمساك بتأثيرات الضوء والظل.
وهذا واضح من خلال طريقة تمثيل الغيم والانعكاسات المائية التي تضفي على المشهد إحساسا بالفورية والحيوية والتلقائية.
واللوحة تزخر بالكثير من التفاصيل: بوّابتان إلى اليمين والوسط يتخللهما صفّ من البيوت. هناك أيضا برجا الكنيستين القديمة والحديثة وبعض سفن الصيد الراسية في مياه القنال. وفي الجزء الأمامي من اللوحة إلى اليسار، نرى عددا قليلا من الرجال والنساء واقفين على الشاطئ.
جوّ اللوحة يعطي انطباعا بأن فيرمير قد يكون رسم اللوحة في صباح يوم بارد. وتبدو الغيوم كما لو أنها تنقشع ببطء بعد ليلة ممطرة، فيما الشمس ترسل وهجها اللامع على صفحة الماء وأسطح البيوت الممتدّة على الشاطئ.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المنظر الأثيري البديع هو الأسلوب الواقعي الذي وظّفه فيرمير في رسمه. وربّما لهذا السبب يعتبر بعض النقاد هذه اللوحة نموذجا ممتازا للوحة الوصفية التي يمكن للإنسان أن يستمتع بالنظر إليها والتمعّن في جمالياتها دونما حاجة إلى الكثير من الشرح أو التحليل.
وقد قيل في بعض الأوقات أن كثافة وعمق الألوان في اللوحة والتأثيرات البصرية المبهرة التي استخدمت في رسمها تجعل من عملية استنساخها أو تقليدها أمرا شبه مستحيل.
"منظر لـ ديليفت" ليست مجرّد لوحة عن الحياة في مدينة بحرية وإنما يمكن اعتبارها معلما يجسّد روح وشخصية هذه المدينة وسجّلا يؤرّخ لأسلوب وشكل الحياة الذي كان سائدا فيها قبل أربعة قرون.
ممّا يجدر ذكره أن فيرمير مات فقيرا معدما، وبعد وفاته ضاع اسمه في غياهب النسيان، وطوال مائتي عام لم يعد احد يتذكّره بشيء.
وقد اضطرّت أرملته بعد وفاته لبيع لوحاته كي تعتاش من ثمنها.
لكن مع حلول منتصف القرن التاسع عشر عاد اسمه إلى الواجهة مجدّدا. واليوم يُنظر إلى فيرمير باعتباره احد أعظم الرسّامين، ليس في بلده هولندا فحسب وإنما في العالم كله.

Sunday, November 18, 2007

لوحات عالميـة - 147‏


بورتريـه امـرأة مجهــولـة
للفنان الروسـي إيفــان كـرامسـكـــوي، 1883

هذه اللوحة الجميلة يمكن أن تندرج ضمن تلك النوعيـة من الأعمال التشكيلية التي يقف أمامها الإنسان متأمّلا بصمت روعة تفاصيلها وتناغم ألوانها واتساق خطوطها دون أن يشعر بالحاجة لان يفهمها على المستوى الفكري أو الانفعالي من اجـل أن يقدّر البراعة والإتقان اللذين وظّفا في رسمها.
في هذه اللوحة نرى نموذجا للجمال المثالي للأنثى التي تضجّ ملامحها بالفتنة الممزوجة بقدر غير قليل من الإثارة والغموض.
وقد تكون اللوحة مألوفـة للذين سبق وأن طالعوا رواية الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي آنا كارينينا، إذ ظلّت صورة المرأة تزيّن غـلاف العديد من طبعات تلك الرواية التي ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبا.
وقد بلغ من شهرة هذه اللوحة في روسيا أن بعض النقّاد يضعونها ضمن أفضل خمس لوحات في تاريخ الفـنّ الروسي كلّه.
الفنان إيفان كرامسكوي يعود إليه الفضل أيضا في إقناع تولستوي بأن يوافق للمرّة الأولى على أن يرسم له بورتريه. وهو البورتريه الذي تحـوّل في ما بعد إلى أهمّ أثر تشكيلي يصوّر الروائي الروسـي الأشهر أثناء حياته.
وقد باشر الفنان رسم البورتريه أثناء انشغـال تولستوي بكتابة "آنـّا كارينينا".
ونتيجة لذلك، نشأت بين الرجلين علاقـة شخصية وفكرية وثيقة وأحـسّ كل منهما بالانجذاب نحو الآخر. وقد وظّف تولستوي شخصـية صديقه الرسّام وجعلـه أحد شخصيات الرواية.
كان كرامسكوي يركّز في لوحاته على تصـوير الواقع الاجتماعي، وكان يضمّـن مناظره معاني وأفكارا فلسفية. وفي ما بعد، أصبـحت أعماله تمثّل جانبا مهمّا من تاريخ روسيا وتطوّر مجتمعها وفنونها.
وقد عُني كرامسكوي في الأساس برسم البورتريهات الشخصية. ومن أشهـر أعماله لوحته "المسيح في البرّية"، بالإضافة إلى لوحاته الأخرى التي رسم فيها كتّابا وعلمـاء وشخصيّات عامّة.
لكن أكثر لوحاته شهرة ورواجا هي هذه اللوحة التي اتبـع فيها طريقته في الغوص بداخل الشخصيـة والنفاذ إلى أعماقها وإبراز سماتها السيكولوجية والروحيـة.
في "بورتريه امرأة مجهولة" نرى سيّدة ذات جمال آسـر وأناقة لافتة، وقد استقرّت على مقعد عربتها المفتـوحة على أحد جسور سانت بيترسبـيرغ.
وهي هنا تبدو بكامـل زينتها، إذ ترتـدي قبّعة حديثة الطراز ومعطفا بلون أسود يتداخـل في نسيجه الحرير والساتان والفراء.
وواضح من ملامـح المرأة وهيئتها المترفة أنها تنحـدر من أصول ارستقراطية.
وفي خلفية المشهد تظهر مجمـوعة من الأبنية التي خلع عليها الضـباب والبرد جوّا من الصفرة الشـاحبة.
بالنسبة للمـرأة، ليس من المتيّسر تماما معرفة طبيعة مزاجها في تلك اللحظـة. لكن نظراتها الغامضة التي تنبئ، ربّما، عن شعور بالكبـرياء قد تخفي وراءها إحساسا ما بالتوتّر أو الحزن.
في بعض الأوقات راجت تكهّنات تقـول إن المرأة المجهولة في اللـوحة هي نفسها بطلة رواية "آنـّا كارينـيـنا".
وتتناول تلك الرواية، التي تحتشـد بالأسئلة الوجودية والمضامين الفلسفية العميقة، قصّة امرأة متـزوّجة أقامت علاقة عاطفية مع رجـل آخر وانتهى بهما الأمر إلى أن أصبحـا منبوذين اجتماعيـا.
وتحت وطأة إحسـاس المرأة بالنبذ وشعورها بالذنب تجـاه زوجها الأول وقلقها من احتمـال ترك عشيقها لها، أقدمـت على الانتحار وذلك بإلقاء نفسـها تحت عجلات أحـد القطارات المسـرعة.
وقد ولدت فكـرة الرواية في ذهـن تولستوي عندما قـرأ تفاصيل تلك الحادثة منشـورة بإحدى الصحف في ذلـك الوقت.
ومؤخّرا، اظهر استفتاء للرأي شارك فيه كتّاب وأدبـاء ونقّاد بارزون أن آنـّا كارينـيـنا تعتبر أعظم عمل روائي كُتـب حتى اليوم.
اما إيفان كرامسكوي فلم يكـن مجرّد رسّام فقط، بل كان أيضا ناقدا ومنظّـرا وأستاذا مرموقا.
وكان يعتقد باستحالة فصـل الأخلاق عن القيم الجمالية، كما كان يدعو دائمـا إلى أن يكون الفنّ أداة للترويج لقيـم الحرّية والكرامة الإنسانية.

موضوع ذو صلة: أجواء روسيّة

Wednesday, November 14, 2007

لوحات عالميـة - 146‏

بــرج بــابـــل
للفنـان الهولندي بيـتر بـريغــل الأبّ، 1569

ارتبط اسم بابل تاريخيا بالقائد نبوخذ نصّر وبالحضارة السومرية. وقد تحوّلت هذه المدينة إبّان حكمه إلى اكبر حواضر العالم القديم.
وفي ما بعد أصبحت بابل جزءا من مملكة النمرود. وفي عهده بدأ بناء البرج الذي اقترن باسم المدينة وأصبح في ما بعد إحدى عجائب الدنيا السبع.
حدث هذا في ما بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، أي بعد فترة قصيرة من وقوع حادثة الطوفان.
تقول المصادر التاريخية إن من نجوا من طوفان نوح وجدوا في بابل ملجئا وملاذا لهم.
كانوا يتحدّثون لغة واحدة ويعيشون معا في سلام. لكن الملك النمرود كان واقعا تحت هاجس الخوف من أن يتفرّق الناس ويتوزّعوا على الأرض، تنفيذا لأوامر الربّ الذي دعاهم لتكثير النسل والسير في مناكب الأرض لتعميرها.
لذا قرّر النمرود بناء برج عظيم يطاول السماء واختار أن يُبنى على قمّة البرج معبد كي يكون المؤمنون قريبين من الله، وبذا يجدون ما يشدّهم إلى أرضهم ويرغّبهم في البقاء فيها.
ولوحة بيتر بريغل الأبّ هي أشهر عمل تشكيلي يتّخذ من تلك الحادثة موضوعا له. وأهم ما يلفت الانتباه في اللوحة هو تركيز الفنان على إبراز عظمة البناء الهندسي والمعماري والزخرفي للبرج.
والبناء نفسه، بجدرانه وطوابقه وأعمدته وأقواسه، هو الذي يحتلّ كامل مساحة اللوحة تقريبا، حيث لا أشياء ولا تفاصيل أخرى يمكن أن تصرف الاهتمام عن هذه الكتلة الهائلة من الطين واللبن التي تلامس ذروتها الغيم. اللهم إلا إذا استثنينا منظر النمرود في أسفل اللوحة وهو يعاين المكان مصحوبا بأفراد حاشيته، فيما راح بعض الأشخاص يسجدون عند قدميه علامة الخضوع والطاعة.
الروايات الإنجيلية تذكر أن البرج كان آية في الإعجاز والفخامة، حتى أن الربّ اضطر إلى أن يغادر عرشه وينزل إلى الأرض ليرى ماذا كان البنّاءون يصنعون. وعندما أدرك حقيقة الأمر، أرسل على الفور ريحا مدمّرة أطاحت بالبناء الهائل وحوّلته بلمح البصر إلى أنقاض.
أما المصادر التوراتية فتشير إلى أن أكثر من ثلث من شاركوا في تشييد البرج قد "مُسخوا إلى مخلوقات شيطانية" قبل أن يُنفوا إلى مكان ناء من الأرض عقابا لهم على عصيان أوامر الربّ!
من الواضح أن بريغل نفّذ لوحته بقدر كبير من الإتقان، كما انه أولى التفاصيل فيها اهتماما خاصا.
لكن الناظر إلى البرج لا بدّ وان يتخيّل انه كان أطول بكثير مما يبدو في اللوحة، إذ يقال بأن طوله كان يربو على الـ 300 قدم عند انجازه.
من الأمور التي يمكن أيضا ملاحظتها في اللوحة ميلان البرج جهة اليسار وتساقط بعض الأقواس والجدران والكتل من أماكنها.
وربّما كان هذا يؤشر إلى أن الرسّام كان يعتقد بأن البرج انهار من تلقاء نفسه وبسبب عيوب هندسية وبنائية، وليس بفعل قوى ميتافيزيقية أو معجزات غيبية كما ساد الاعتقاد دائما.
ومن الأمور اللافتة الأخرى أن البرج بُني على حافّة النهر حيث الأرض هشّة وليّنة، ولم يُبنَ على جبل مثلا. وفي هذا إشارة أخرى إلى أن البرج كان يعاني أصلا من عيوب بنيوية أو هيكلية هي التي تسبّبت في تصدّعه ومن ثم انهياره.
بعض المؤرّخين يعتقدون أن قصّة ربط نهاية البرج بغضب الله نشأت عندما جيء باليهود أسرى إلى بابل. وقد رأوا البرج وهالهم منظره وعظمة بنائه وظنوا أن الغاية من إنشائه هي الوصول إلى الله فأحسّوا بالخوف من الفكرة.
وعندما عادوا من بابل نقلوا معهم ذلك الاعتقاد وروّجوه على نطاق واسع حتى ترسّخ في أذهان العامة وأصبح حقيقة لا تقبل الجدل.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل إن كان البابليون، وهم أصحاب حضارة عريقة ابتدعت القوانين والكتابة وأسرار الفلك، كانوا فعلا على ذلك المستوى من السذاجة بحيث يتصوّرون أن بإمكانهم الوصول إلى الله ومواجهته عيانا.
في العصور اللاحقة أصبحت حادثة برج بابل رمزا لخطيئة الإنسان وتطاوله على مشيئة الخالق.
أما لوحة بريغل نفسها فكثيرا ما يتمّ استحضارها عند الحديث عن أهمية التنوّع الثقافي واللغوي ودور تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في ربط الشعوب بعضها ببعض رغم الحواجز الجغرافية واختلاف الأديان واللغات والثقافات.

موضوع ذو صلة: أعمى يقود عميانا

Wednesday, November 07, 2007

لوحات عالميـة - 145‏

حانـة فـي الــ فولـي بيـرجيـر
للفنان الفـرنسـي إدوار مـانـيــه، 1882

رسم ادوار مانيه هذه اللوحة قبل سنة من وفاته. ورغم مرور أكثر من مائة عام على ظهورها، ما يزال يُنظر إليها باعتبارها واحدة من أكثر اللوحات إثارة وغموضا في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي.
كان مانيه معجبا كثيرا بأسلوب دييغو فيلاسكيز، ولطالما عبّر عن افتتانه بالألغاز البصرية المعقّدة التي ضمّنها الرسّام الاسباني الأشهر لوحته الذائعة الصيت وصيفات الشرف.
لكن يبدو النقاد منقسمين بشدّة حول مضمون هذه اللوحة وقيمتها الإبداعية. بعضهم يرى أنها خالية من أي معنى كما أنها لا تنطوي على أيّ إبداع حقيقي من وجهة النظر الأكاديمية البحتة.
لكنّ نقادا آخرين يرون أن اللوحة نتاج عقلية فذّة ومقدرة فنية فائقة على استخدام اللغة البصرية للمزاوجة بين الواقع الملموس والعالم المجرّد.
المكان الذي تقدّمه اللوحة هو الفولي بيرجير، وهو عبارة عن صالة باريسية شهيرة توفّر لروّادها ضروبا من اللهو والتسلية المختلفة وتقدّم فيها المشروبات وتعزف الموسيقى وتقام فيها العروض والألعاب البهلوانية.
في اللوحة نرى فتاة تقف وسط الحانة وأمامها صفّ من الفواكه والزهور وزجاجات النبيذ والشمبانيا.
لكن عنصر الغموض الأساسي في اللوحة يتمثل في الحاجز الزجاجي الكائن خلف الفتاة.
الزجاج يفترض أنه يعكس الأشياء والموجودات التي أمامه. غير أننا نرى فيه عالما آخر لا علاقة له بما هو موجود في مقدّمة اللوحة من عناصر وأشياء واقعية.
وأهمّ ما يمكن رؤيته منعكسا على الزجاج هو المرأة التي ترتدي القفّازات وتتبادل حديثا على الواقف مع رجل يبدو انه صديق أو زبون ما.
وقد عُرف عن هذا المكان تنوّع الخدمات التي من المفترض أن تقدّمها فتيات الحانة لبعض الزبائن من أصحاب الاحتياجات الخاصّة.
وما من شكّ في أن مانيه عندما رسم هذه اللوحة كان في ذهنه لوحة فيلاسكيز بأحاجيها البصرية وغموضها المثير. وربّما أراد مانيه هو الآخر التأكيد على فكرة أن بعض ما نراه في الواقع من أشياء وصور ومظاهر لا تعدو كونها أمورا تجريدية لا توجد إلا في المرايا. وهذا يستتبع أن يتحوّل المتلقي نفسه إلى حضور شبحي أو متخيّل لا يختلف عن الحشد الذي تنظر إليه الفتاة.
وفكرة مزج الواقعي بالمجرّد في الأدب والفنّ فكرة ليست بالجديدة، وهي تستند إلى افتراض مؤدّاه أن كلّ إنسان يرى الحياة بحسب فهمه وإدراكه، وأن عالم الواقع برغم غناه بالصور والرموز فإنه قاصر عن رؤية ما يختفي تحت سطح الأشياء والمظاهر.
كما تفترض الفكرة أن كلّ ما نعتقد انه واقع ملموس يخفي وراءه وجودا مجرّدا، وبذا يصبح من الضروري إعادة فحص الواقع وتمحيصه للتحرّر من قيوده ونواقصه ولاكتشاف امتداداته المجرّدة.
أحد التفسيرات الكثيرة التي أعطيت لهذه اللوحة هو أن الفتاة غير سعيدة بمهنتها لأنها تشعر أنها غريبة عن عالمها الصغير. وممّا يدعم هذه الفرضية حقيقة أن الفتاة هي الشخص الوحيد الذي لا تظهر صورته منعكسة في المرآة.
والزجاج يقوم هنا بدور الحاجز الذي يفصلها عن محيطها الذي هو عبارة عن غابة من المرايا التي تعكس صورا لأفراد منهمكين في تبادل الحديث والعناق وربّما الكذب والزيف.
قد يكون في ذهن مانيه عندما رسم هذه اللوحة أن الإنسان مهتم بطبعه بالتفاصيل الظاهرة والملموسة لان هذا يسهلّ عليه تفسيرها والبحث عن أسبابها من اجل فهمها والسيطرة عليها.
لذا فإن المزاوجة بين الواقع والمجرّد قد يكون أداة فعّالة تسمح للفنّان أو المبدع بتجاوز الإدراك النمطي والتفسير الحرفي والمباشر للأشياء والظواهر وتنقله إلى فضاء أوسع يستثار فيه العقل ويحفّز الشعور للنفاذ إلى كنه الأشياء وعوالمها الجوّانية.
وهذا لا يتأتّى إلا من خلال هذه المزاوجة التي تنحّي جانبا أية أفكار أو تصوّرات مسبقة وتمنح المجرّد وجودا ذاتيا وخاصّا.
وأيّا ما كانت التفسيرات التي أعطيت للوحة مانيه هذه، فإنها تظلّ إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الرسم العالمي سواءً بغرابة مضمونها أو بالأسلوب الثوري الذي أنجزت به أو الجدل الذي أثارته وما زالت تثيره.

موضوع ذو صلة: أغنية البجعة الأخيرة

Tuesday, November 06, 2007

لوحات عالميـة - 144‏

بورتريـه الشاعـر الفقيـر
للفنان الألمـاني كـارل شبـيتــزوغ، 1839

هذه اللوحة مشهورة ليس في ألمانيا، بلد الرسّام، فحسب، وإنما خارجها أيضا؛ في أوربّا وأمريكا وغيرهما.
وقد كشف استفتاء اجري مؤخّرا عن أن اللوحة تحتلّ المركز الثاني في قائمة الأعمال التشكيلية الأكثر تفضيلا عند الألمان. ويأتي قبلها الموناليزا وبعدها مباشرة لوحة البريخت ديورر "أرنب برّي صغير".
أما صاحب اللوحة، كارل شبيتزوغ، فهو نفس الفنان الذي رسم في ما بعد دودة الكتب The Bookworm، وهي لوحة مشهورة جدا يعرفها عشّاق الكتب والمعنيّون بأمور الثقافة عموما.
ومن الواضح أن معظم أعمال شبيتزوغ تستمدّ موضوعاتها من رؤية الفنان إلى أحوال الطبقة الألمانية الوسطى، خاصّة المثقفين، خلال القرن التاسع عشر.
في هذه اللوحة يصوّر الفنان حال الشاعر معتمدا على الصورة النمطية المألوفة عن الشعراء .
فهم مثاليون وحالمون وميّالون لان يعزلوا أنفسهم عن واقع المجتمع. وهم يكرّسون كلّ وقتهم وجهدهم للكتابة والتأمّل والإبداع.
ثم إن معظم الشعراء، رغم إبداعهم وذكائهم وتميّزهم، غالبا ما يعيشون حياة فقر وعَوَز.
في اللوحة نرى شاعرا مستلقيا على سرير خشبي متهالك في غرفة بائسة.
ومحتويات الغرفة وشكلها، من الجدران إلى الأرضية والسقف، بالإضافة إلى هيئة الرجل الرثّة، كل ذلك يشي بمستواه الاجتماعي وربّما أيضا بشدّة إحساسه بالوحدة. وغالب الظنّ أنه يعيش وحيدا دون عائلة.
لكن بالرغم من ظروف الشاعر الصعبة، ورغم انه يرتجف من شدّة البرد، فإنه يبدو منهمكا في التفكير والكتابة.
ولأن الشاعر لا يرضى إلا أن يكون نتاجه في غاية الكمال والنضج والإتقان، يبدو الرجل وقد أحرق بعض أوراقه في المدفأة. وهناك على الأرض رزمة أخرى من الأوراق تنتظر نفس المصير.
وكلّ ما في غرفة الشاعر من موجودات وأشياء يدلّ على الفقر المدقع. وواضح أن كلّ ما يمتلكه لا يتعدّى قبّعة وعصا وربطة عنق بسيطة. بالإضافة إلى المظلة التي تركت مفتوحة ومعلقة في السقف.
لكن رغم حالة البؤس والعوز التي تكتنف المشهد، فإن الرسّام حرص على أن يضمّنه بعضا من روح المرح والدعابة.
وهذا واضح من طريقة رسمه لملامح وجه الشاعر وعدد وأحجام الكتب التي أحاط بها نفسه وكذلك الكيفية التي يمسك بها القلم.
وقد اتبع الفنان نفس الأسلوب في لوحته الأخرى عندما رسم وجه المثقّف العجوز وطريقة وقوفه وإمساكه بالكتب بطريقة لا تخلو من السخرية والكاريكاتيرية.
كان كارل شبيتزوغ متأثّرا بأعمال كل من جون كونستابل وديلاكروا.
وكان يهتمّ بملاحظة الخصائص والسلوكيات الإنسانية مع ميل إلى توظيف روح السخرية في لوحاته، وهو أسلوب أدّى إلى انه أصبح قريبا من وجدان العامّة الذين كانوا يحبّون لوحاته ويرتاحون لموضوعاتها.
وقد عاش شبيتزوغ في عصر كانت فيه الرومانسية في طريقها إلى الانحسار لصالح المدرسة الواقعية التي تعنى بمشاكل الناس وتصوير مظاهر الحياة اليومية للأفراد العاديين.
في تلك الفترة كان الموسيقي فرانز شوبيرت قد بدأ يحظى بالاهتمام والشهرة بموسيقاه التلقائية والسهلة على حساب بيتهوفن الغارق في رومانسيته وانضباطه وصرامته.
كما بدأ الناس ينصرفون عن الشعر الكلاسيكي لمصلحة شعر التفعيلة أو الشعر الحديث.
ربّما أراد كارل شبيتزوغ أن يقول من خلال لوحته هذه أن على الشاعر، والمبدع عموما، ألا يعزل نفسه عن حركة المجتمع وانه لا بدّ أن يجد له وظيفة نظامية يعتاش منها وينفق من دخلها على نفسه. وإلا بقي حاله كحال هذا الشاعر المعدم الذي بالكاد يجد ما يكفي حاجته أو يوفّر له الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم.

Wednesday, October 31, 2007

لوحات عالميـة - 143‏

جمـال روســي
للفنان الروسـي ألكسـي هـارلامــوف، 1921

قد لا يكون ألكسي هارلاموف اسما متداولا كثيرا في أوساط الفنّ التشكيليّ العالميّ، لكن لوحاته تدلّ على انه كان رسّاما متميّزا. كان تخصّصه الأساسيّ رسم البورتريه، لكن له لوحات يصوّر فيها الفقراء والفئات الاجتماعية الأقلّ حظّاً.
وكان قد حقّق نجاحا كبيرا في بلده روسيا، حيث رسم بورتريهات للعديد من أفراد الطبقة الارستقراطية فيها. في تلك الفترة، كان الاتجاه السائد الذي يغلب على أعمال الفنّانين الروس هو رسم المواضيع الدينية وتصوير السفن والحياة البحرية بشكل عام.
لم يمكث هارلاموف طويلا في مدينته سانت بطرسبورغ، إذ دائما ما كانت تحدوه الرغبة في السفر والتعرّف على تجارب فنّية جديدة. لذا هاجر إلى فرنسا، وهناك اتّسعت تجربته ونمت موهبته الفنّية أكثر وأصاب المزيد من النجاح والشهرة.
ولوحاته تذكّرنا إلى حدّ ما بأسلوب رينوار من حيث طريقته في استخدام الألوان والظلال، وإن كان يغلب على أسلوبه الطابع النيوكلاسيكيّ والواقعيّ.
في هذه اللوحة الجميلة استخدم هارلاموف ابنته كموديل، وهو كثيرا ما رسمها في العديد من البورتريهات بأوضاع مختلفة. وهي هنا تظهر في حالة تأمّل وعزلة مع شيء من الحزن، لكنها تبدو بعزيمة وحضور قويّين.
ومن الواضح أنه لم يكن يرسم اللوحة اعتمادا على ضربات الفرشاة فحسب، بل رسمها بقلبه ومشاعره، لذا استطاع أن ينفذ إلى روح الشخصية وأن يترجم مشاعرها بدرجة من الصدق والعفوية.
تعابير الطيبة والبراءة التي تنطق بها ملامح الفتاة وعيناها هي سمة نجدها في أعمال الفنّان الأخرى التي تستمدّ أجواءها من الحياة الريفية وبيئة الفلاحين التي تتّسم بالبساطة والتلقائية.
أيضا هناك الألوان الحيّة والمتناغمة التي تمتلئ بها اللوحة، ثمّ هذا التباين الرائع بين غطاء الرأس الأحمر والفستان الأبيض والخلفية التي اختار لها الرسّام اللون البنّي وتدرّجاته.
وطبعا لا يمكن للناظر إلا أن يجذب اهتمامه ذلك العقد الجميل من اللؤلؤ الذي يزيّن جيد الفتاة بألوانه الناعمة الشفّافة والمتناغمة مع البناء التشكيليّ العام للوحة.
ولد ألكسي هارلاموف في قرية ساراتوف على نهر الفولغا عام 1842 لعائلة من العبيد. وفي عام 1850 كسب والداه وعائلته حريّتهم. وقد درس الرسم أوّلا في أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنّ ثم درس على يد الرسّام ماركوف الذي كان متخصّصا في رسم المواضيع التاريخية.
وفي بداياته، كان هارلاموف يقلّد أعمال كبار الرسّامين، وقد تأثّر على نحو خاص بأسلوب رمبراندت، ثم رسم مناظر حربية ودينية. كما انجذب إلى أعمال كلّ من فيرونيزي وروبنز التي رآها في اللوفر في ما بعد، ووقف مطوّلا أمام لوحة ديلاكروا "دانتي وفرجيل" ولوحة رمبراندت "طبيب التشريح".
وعندما تطوّرت موهبته وصار رسّاما معتبرا أصبح من بين زبائنه القيصر الروسيّ الكسندر الثاني. كما اشترت القيصرة ماريّا الكسندروفنا إحدى لوحاته.
وفي مرحلة تالية فاز بالميدالية الذهبية عن لوحته "عودة الابن الضالّ". وهذا مكّنه من أن يذهب إلى فرنسا ويدرس في مدرسة الفنون الجميلة بباريس على يد الرسّام ليون بونا.
وقد عرض بعض أعماله في صالون باريس وحصل على أكثر من جائزة. كما حظي بإعجاب الروائيّ إميل زولا الذي أثنى عليه وامتدح أسلوبه في رسم البورتريه وثمّن عاليا لوحته التي رسمها للكاتب ايفان تورغينيف. وفي باريس أيضا، رُشّح هارلاموف رئيسا لجمعية الرسّامين الروس في فرنسا.
غير أن نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا دفعه لمغادرة باريس إلى بلجيكا ثم قضى وقتا في إيطاليا وألمانيا، ثم استقرّ لبعض الوقت في انجلترا. وفي عام 1874 شارك في معرض الرسّامين الأكاديميين في سانت بطرسبورغ ونال لقب "أكاديميّ" تقديرا لموهبته.
رسم هارلاموف العديد من اللوحات لنساء جميلات تظهر على وجوههنّ تعابير الدفء والحنين والبراءة والرّقة. ومثل رينوار، كان يستخدم الزهور بكثرة في لوحاته للتأكيد على رقّة الموضوع وليرمز بها إلى مرحلة الشباب التي لا تدوم طويلا بل تذبل سريعا مثلما تذبل الأزهار.
الملكة الانجليزية فيكتوريا اُعجبت بإحدى لوحاته التي تصوّر أطفالا يلهون وسط الأزهار والتي رأتها في غلاسغو. ثم أصبح يلفت انتباه الموسرين الأمريكيين والأوربّيين الذين قدّروا عاليا صوره عن نساء وفتيات بهيئات مثالية.
وجامعو التحف واللوحات الفنّية من أثرياء أمريكا وأوربّا كانت تروق لهم هذه اللوحات وكانوا يهتّمون باقتناء وشراء أعماله التي تجسّد الروح العائلية وتعطي إحساسا بالبراءة والسلام الداخليّ.
ويتوزّع العديد من لوحاته اليوم على متاحف العالم الكبيرة من لوس انجيليس إلى سانت بطرسبورغ وحتى موسكو وتايوان. وقد استمرّ هارلاموف يرسم إلى أن توفّي في باريس عام 1922 عن عمر جاوز الثمانين.

Sunday, October 28, 2007

لوحات عالميـة - 142‏

أرنـب بـرّي صغيـر
للفنان الألماني البـريخـت ديورر، 1502

لا بدّ وان الكثيرين منا ألفوا رؤية هذه اللوحة، إذ لا تخلو منها كتب المطالعة المدرسية القديمة والحديثة. كما أنها تتبوّأ دائما المراكز الأولى في قوائم اللوحات الفنية الأكثر مبيعا، خاصة تلك اللوحات التي تقتنى لأغراض الديكور والزينة المنزلية.
واللوحة تنتمي إلى ذلك النوع من الأعمال الفنّية التي قد لا تلفت الاهتمام ولا ترتاح لها العين لأوّل وهلة. لكن النظر إلى تفاصيلها بشيء من التمعّن والتركيز سرعان ما يكشف لنا بعضا من ملامح الجمال والتفرّد فيها.
الملاحظة الأولى بشان اللوحة هي أنها تقدّم رسما واقعيا ومفصّلا يصل إلى درجة الكمال لأرنب برّي في وضع متحفّز. ويبدو الحيوان الصغير كما لو انه يحاذر الوقوع في قبضة عدوّ متربّص ينوي مهاجمته.
وإذا كانت لوحات مود لويس تعتبر أفضل ما رُسم عن عالم القطط، فإنه يمكن القول إن هذه اللوحة تصوّر أشهر حيوان في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي كله.
وثمّة احتمال بأن يكون البريخت ديورر رسم اللوحة لمجرّد المتعة الفنّية فحسب. ومع ذلك فإن كلّ شعرة وكلّ جزء وكل تعبير فيها يعدّ مؤشّرا على أن اللوحة أنجزت بحساسية وتمكّن عاليين، لدرجة انه يخيّل للناظر أن الحيوان قد عاد إلى الحياة وأصبح كائنا من لحم ودم. كما أن اللوحة تؤشّر أيضا إلى مدى قوّة ملاحظة الرسّام والدفء الإنساني الذي تختزنه مشاعره.
وقد ظهرت اللوحة لأوّل مرّة ضمن مجموعة رسومات بالألوان المائية أنجزها ديورر لتزيّن كتابا ألفه كونراد سيلتيس وضمّنه خمسين قصيدة حبّ يتغنّى فيها بالطبيعة وبعلاقة الإنسان بالحيوانات وبالكائنات إجمالا.
ويلاحظ أن ديورر لم ينسَ أن يوقّّّع اللوحة ويسجّل عليها تاريخ رسمه لها كما كان يفعل مع جميع لوحاته.
كان ديورر من أوائل الرسّامين الذين كانوا يؤمنون بأن الحيوان يمكن أن يكون موضوعا لأعمال فنية ذات شأن. وفي العصور التي جاءت بعده تلاشى الاهتمام برسم الحيوانات ثم عاد مجدّدا بحلول القرن الثامن عشر عندما رسم جورج ستبس لوحته الشهيرة ويسل جاكيت .
وقد كان النقاد في الماضي يعتبرون أن رسم الحيوان يمكن أن يوفّر دليلا على مهارة الرسّام وبراعته الفنية، غير أن ذلك لا يقدّم فنا عظيما يمكن أن يعبّر عن رؤى ومواقف أو عن إبداع حقيقي.
لكن ديورر اثبت من خلال هذه اللوحة بطلان تلك النظرية، حيث أصبحت اللوحة في ما بعد أحد أشهر الأعمال الفنية العالمية وأكثرها رواجا واستنساخا ومبيعا وتقليدا.
ويرى بعض النقاد أن ديورر كان آخر فنّاني العصور الوسطى لكنه بنفس الوقت كان أوّل فنّان حداثي، بالنظر إلى تجاوزه غيره وخروجه على التقاليد الفنية التي كانت سائدة في زمانه.
وقد عاش الفنان في عصر بدأ الناس فيه يهتمّون بتقديس العقل والاهتمام بالأمور الدنيوية على حساب الدين واعتبارات الإيمان.
في ما بعد، اتّسع الاهتمام بالرسومات التوضيحية التي تزيّن كتب الأطفال والقصص والأساطير الخيالية، ومن أشهر من تخصّصوا في هذا النوع من الرسم ادمون دولاك الذي رسم ألف ليلة وليلة و رباعيات الخيـّام، وآرثر راكهام الذي رسم سندريللا، وغوستاف دوري الذي رسم الكوميديا الإلهية، بالإضافة إلى أسماء مشهورة أخرى مثل نورمان روكويل و ماكسفيلد باريش.
وأخيرا، هناك من يقول انه إذا كان هناك عمل فنّي منفرد سجّل البدايات الأولى للثورة العلمية فربّما يكون هذه اللوحة التي سُخّر فيها الفن لخدمة التجريب وحبّ الاكتشاف والملاحظة.

Wednesday, October 24, 2007

لوحات عالميـة - 141‏

بورتـريه اديـل بلـوكبــاور 1
للفنان النمساوي غـوستـاف كليـمـت، 1907

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين كان يعيش في فيينّا عاصمة النمسا تاجر يهودي اسمه بلوكباور.
كان هذا الرجل قد ورث عن والده ثروة طائلة. وكانت له زوجة اسمها أديل، تنحدر هي أيضا من أصول ارستقراطية.
ومثل زوجها، كانت هي الأخرى تتمتّع بالكثير من الوجاهة والنفوذ.
كانت اديل سيّدة حديثة ومتحرّرة، ولطالما أحيت في قصرها المناسبات والحفلات المختلفة وأحاطت نفسها بأعيان وصفوة المجتمع من ساسة وأدباء وفنّاني وموسيقيي ذلك الزمان، وعلى رأسهم الموسيقي ريتشارد شتراوس والرسّام غوستاف كليمت.
كان بلوكباور يحبّ زوجته كثيرا وقد عاش الاثنان حياة هانئة ومستقرّة. ولم تخمد جذوة ذلك الحبّ أو تفتر حتى عندما تبيّن لهما أنهما لن يرزقا بأطفال طيلة ما تبقّى لهما من عمر.
وتعبيرا من بلوكباور عن محبّته لزوجته، كلّف صديقه الفنان كليمت برسم بورتريه لها.
وبالفعل قام كليمت برسم هذه اللوحة التي استغرق انجازها ثلاث سنوات.
وفيها تظهر اديل بلوكباور بمظهر المرأة الفخورة والمعتدّة بنفسها.
ولا يقلل من هذا الانطباع نظراتها الغامضة ولا الشفتان الحمراوان المثيرتان.
وهي هنا ترتدي فستانا يضجّ بالألوان المزركشة، بينما أسندت ذراعيها إلى صدرها.
على أن الملمح الأكثر أهمّية في اللوحة هو طغيان اللون الذهبي على بنائها العام، وهي سمة غالبة على معظم أعمال كليمت.
ويعزى ولع الفنّان بهذا اللون إلى تأثّره بالفنّ البيزنطي الذي كان يعتبر اللون الذهبي رمزا لكل ما هو مقدّس ورصين وفخم.
كما تمتلئ اللوحة بالأشكال الهندسية والديكورية المختلفة والمتداخلة التي تتماهى مع جسد المرأة ومع حركة الألوان المضيئة والزاهية في وحدة واحدة.
وربما يخيّل للناظر انه بإزاء جدارية هيروغليفية أو سومرية، مع كل هذه العناصر الهندسية والأشكال التزيينية والنفحات اللونية الموظفة في هذه اللوحة بطريقة تشي بالنضج التقني وبقدر غير قليل من الإبهار والبراعة.
لم يكن مقدّرا لحياة الرفاهية والنعيم التي عاشها الزوجان بلوكباور أن تدوم طويلا.
فقد توفّيت اديل فجأة بالحصبة وعمرها لا يتجاوز الثالثة والأربعين.
وكانت قبيل وفاتها قد أوصت بأن تؤول ملكية اللوحة بعد وفاة الزوج إلى حكومة النمسا.
لكن بعد موت الزوجة بسنوات قليلة، تلقى بلوكباور ضربة قاسية أخرى أطاحت بكل ما بقي له من أمل في الحياة.
إذ نشبت الحرب العالمية الثانية فجأة، وأثناء الحرب قامت القوّات الألمانية باكتساح النمسا واحتلال أراضيها.
ولأن بلوكباور كان على رأس قائمة المطلوبين باعتباره يهوديا، فقد سارع بالفرار إلى سويسرا كي ينجو بنفسه، مخلّفا وراءه كل ما كان يملك من ثروة وجاه.
وقد قام القادة النازيّون بمصادرة جميع ممتلكات عائلة بلوكباور ثم وزّعوها في ما بينهم كغنائم حرب.
ولم يسلم من النهب حتى القصر الصيفي الذي كانت تملكه العائلة في إحدى ضواحي مدينة براغ.
وكان من ضمن ما نهبه الألمان هذه اللوحة.
في سويسرا عاش بلوكباور حياة تشرّد وفقر. وبما انه لم يخلّف أطفالا، فقد أوصى قبل وقت قصير من وفاته بأن تؤول كافّة ممتلكات العائلة، المصادرة الآن، إلى أبناء شقيقه.
ومرّ وقت طويل تغيّرت خلاله الكثير من الوقائع والأحوال. فقد عادت اللوحة بعد انتهاء الاحتلال الألماني إلى عهدة حكومة النمسا تنفيذا لوصيّة المرأة.
وطوال الستّين عاما الماضية كانت اللوحة، بالإضافة إلى غيرها من أعمال كليمت، تُعرض في احد غاليريهات فيينّا الكبيرة.
لكن في ما بعد ظهرت الوريثة الوحيدة التي بقيت من هذه العائلة، وهي امرأة عجوز كانت قد لجأت إلى الولايات المتحدة ووجدت فيها وطنا ثانيا بعد أن تشردّت العائلة وتوزّعت في المنافي.
ورفعت المرأة، وهي ابنة شقيقة اديل، قضيّة أمام المحاكم تطالب فيها بإعادة اللوحة إليها باعتبارها الوريث الوحيد لعائلة بلوكباور.
وبعد معركة قانونية طويلة أصدرت المحكمة أمرها بإلزام حكومة النمسا بإعادة اللوحة إلى السيّدة التي يناهز عمرها اليوم التسعين عاما.
لكن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ.
ففي العام الماضي باعت المرأة اللوحة على احد غاليريهات مانهاتن بمبلغ 135 مليون دولار لتصبح بذلك ثالث أغلى لوحة في العالم.
أما كليمت نفسه فيعتبر احد أشهر الرسّامين في النمسا والعالم وهو صاحب اللوحة المشهورة القبلـة.
وقد كانت وفاته في العام 1918، وماتت اديل بلوكباور بعده بسبع سنوات.
وهناك الكثير من القصص التي تتحدّث عن علاقة ما كانت تربط الفنان بالسيّدة التي رسمها وخلّد اسمها من خلال لوحته هذه.

Sunday, October 21, 2007

لوحات عالميـة - 140‏

ليلـة مرصّعـة بالنجـوم فـوق الـرون
للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ 1888

عُرف عن فان غوخ افتتانه برسم السماء الليلية. وقد رسم هذه اللوحة، بالإضافة إلى لوحتيه الشهيرتين ليلة مرصّعة بالنجوم و ساحة مقهى في الليل، في فترات متقاربة أثناء إقامته في ضاحية آرل الباريسية.
كان فان غوخ يجد في السماء وفي تأثيرات الضوء ليلا مادّة أغرته برسم بعض أشهر أعماله وأكثرها شعبية ورواجا.
في هذه اللوحة الرائعة يحاول الفنان رسم تأثيرات الأضواء المشعّة من السماء وتلك المنبعثة من المصابيح الاصطناعية التي اكتشفت للتوّ آنذاك، محاولا الإمساك بانعكاسات ألوانها وخطوطها وظلالها على مياه نهر الرون الزرقاء.
ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن هذه اللوحة ظلت دائما محطّ اهتمام وإعجاب علماء الفلك الذين درسوها وحللوها ليتوصّلوا إلى استنتاج مؤدّاه أن فان غوخ كان دقيقا في تحديد موقع كل نجم في اللوحة، ما يؤكّد انه رسمها ليلا في الهواء الطلق وفي نقطة ما على ضفّة النهر القريب من منزله.
أكثر ما يلفت الانتباه في اللوحة هو هذا الوهج اللوني الأخّاذ الذي يضيء كلّ جزء وكلّ تفصيل فيها. لا شيء هنا سوى السماء الليلية الممتدّة وهذه الغلالة السميكة والمتوهّجة من النجوم المشعّة التي تغطي صفحة الماء بألوانها الكرنفالية البهيجة والمبهرة.
وفي ما عدا هذا الملمح، يمكن رؤية جسر وصخور وأبراج وأبنية تلوح من بعيد، بالإضافة إلى رجل وامرأة يظهران في مقدّمة اللوحة وهما يتمشّيان على ضفّة النهر، وهو ما يعطي المشهد لمسة واقعية.
كان فان غوخ يحبّ الألوان كثيرا، وكان يعتقد أن الليل أكثر ثراءً بالألوان من النهار لانه يختزن ظلالا لونية مكثّفة من الأزرق والأرجواني والبنفسجي وغيرها.
وقد اعتاد دائما على التحديق في السماء الليلية حيث لا أنوار اصطناعية ولا صخب يمكن أن يصرف اهتمامه عن التأمّل والمشاهدة.
كان يجلس على ضفّة النهر ليلا ويرقب النجوم باهتمام وهي تتحوّل من البرتقالي إلى الأزرق، ومن الأزرق إلى الأرجواني، والعكس.
وكثيرا ما كان ينفر من فكرة رسم السماء مغطّاةً بنقاط بيضاء صغيرة، لان ذلك برأيه لا ينقل صورة السماء بطريقة واقعية ومعبّرة.
ومما يؤثر عن فان غوخ قوله: إن مرأى النجوم يجعلني احلم. وفي الصباح الباكر كنت اطلّ من نافذة المنزل قبل أن تشرق الشمس بوقت طويل. لم يكن هناك سوى نجمة الصبح التي كانت تبدو كبيرة ومتوهّجة".
افتتان فان غوخ اللافت بالليل والنجوم يمكن أن يُعزى إلى حقيقة انه كان يجد في منظر السماء والنجوم ليلا بعض ما يخفّف عنه إحساسه المقبض بالوحدة والاكتئاب.
ثم انه كان إنسانا حالما وحسّاسا وواسع الخيال. وثمّة احتمال بأن منظر الليل والنجوم كان يشعره بوجوده الصغير في خضمّ هذا الكون الفسيح واللانهائي.
وربّما كان يرى في النجوم عالما موازيا لعالمه الخاص، أو انه كان يبحث فيها عن وطن أو ملاذ يهرب إليه من بؤس الواقع وقسوة الحياة.

Friday, October 19, 2007

لوحات عالميـة – 139‏

نســاء الجـزائـــر
للفنان الفرنسي أوجيـن ديـلاكـــرو، 1834

في العام 1832 سافر أوجين ديلاكروا إلى اسبانيا وشمال أفريقيا في مهمّة ديبلوماسية.
وكان لتلك الرحلة اثر كبير في اختيار الفنان مواضيع لوحاته التي ستظهر في ما بعد، والتي سجّل فيها جوانب من ملاحظاته ومشاهداته الشخصية في تلك البلاد.
وحطّت به الرحال أخيرا في المغرب. حدث ذلك بعد فترة قصيرة من استيلاء فرنسا على الجزائر.
وفي المغرب تمكّن ديلاكروا من أن يشقّ طريقه إلى مجتمعات النساء وعالم الحريم الغامض.
في البداية لم تكن تلك المهمّة سهلة، بالنظر إلى التقاليد المحافظة والعادات الصارمة التي تلزم النساء بتغطية أجسادهن.
وعندما شاهد ديلاكروا عالم الحريم لأوّل مرة أسكره المنظر وأحسّ بالدهشة والافتتان. إذ كان يعتقد دائما أن ثقافة شمال أفريقيا وأسلوب حياة أهلها بما تنطوي عليه من حيوية و "إكزوتية" في منتصف القرن التاسع عشر، كانت صورة مصغّرة عن الحياة زمن الإغريق والرومان.
وبعد سنتين من ذلك التاريخ أنجز الفنان هذه اللوحة التي يعتبرها كثيرون إيذانا ببدء الحركة الاستشراقية في الثقافة والفن.
في "نساء الجزائر" نرى ثلاث نساء يجلسن على أرضية غرفة، بالإضافة إلى امرأة سوداء، لعلها خادمة.
وأكثر ما يلفت الانتباه في المشهد هو منظر المرأة الجالسة إلى أقصى اليسار مستندةً إلى أريكة، إذ تبدو ذات ملامح جميلة بنظراتها الحالمة وفستانها ذي الألوان الباردة والمتناغمة.
أما المرأتان الجالستان إلى يمين اللوحة فتبدوان كما لو أنهما تتبادلان حديثا شخصيا، فيما تمسك إحداهن بالارغيلة – وهو منظر نراه كثيرا في اللوحات التي تصوّر غانيات – بينما أدارت الخادمة السوداء ظهرها كـي تنظر إلى سيّدتها "في الوسط" وهي تهمّ بالخروج من الغرفة.
ولعلّ أهمّ ملمح في هذه اللوحة هو حركة الألوان والأشكـال فيها وتلقائية شخوصها وتفاصيلها.
"نساء الجزائر" اعتبرت دائما تحفة فنية من اللون والضـوء والتفاصيل الدقيقة الأخرى التي برع ديلاكروا في رسمها لينقل إلينا عبرها صورة من صور الحريم في بيئتهن الدافئة والمثيرة للغرائز.
بالإضافة إلى هذه اللوحة، رسم الفنان حوالي مائة لوحة أخـرى صوّر فيها جوانب مختلفة عن الحياة في شمال أفريقيا. وتمتلئ لوحاته المغاربية بمشاهد لخيول عربية وبشر يصارعون حيوانـات مفترسة ومعارك بين القبائل في الجبال.
كانت "نساء الجزائر" احد مصادر الهام الانطباعيين كما قام بيكاسـو بتقليدها. وحديثا ألفت الكاتبة الجزائرية آسيا جبّار كتابا مثيرا للجدل عن المرأة والثقافة واللغة استوحت عنوانه وغلافه من اللوحة، في إشارة إلى أن الظلم الذي تتعرّض له المرأة ما يزال قائما منذ زمن الاستعمار وعصر الحريم.
ديلاكروا كان احد أشهر رسّامي القرن التاسع عشر. ولم يكن يرسم فقط، بل اشتغل بالأدب والسياسة والديبلوماسية.
وكان من اقرب أصدقائه الموسيقي البولندي فريدريك شوبان والأديبة جورج صاند وعازف الفيولين الايطالي الشهير نيكولا باغانيني، وقد رسم للثلاثة بورتريهات.

موضوع ذو صلة: الفنّ الاستشراقي.. يقظة بعد سُبات

Tuesday, October 16, 2007

لوحات عالميـة – 138‏

بورتـريه ســاره برنــارد
للفنان التشيـكي الفـونس مـوشــا، 1904

يعتبر الفونس موشا احد روّاد ما يُعرف بالفنّ الحديث الذي كان يهدف إلى إزالة الحواجز ما بين الرسم والجمهور. وكانت نظرية رموز هذا المدرسة تتلخص في أن الفن يمكن أن يستمدّ موضوعاته من مفردات الحياة الشعبية مثل إعلانات السلع وملصقات الشوارع والمترو وديكورات المسرح والسينما وخلافه.
وأهمّية هذا البورتريه تعود إلى كونه يصوّر ساره برنارد، أشهر ممثلة فرنسية في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وقد طلبت الممثلة من الرسّام انجاز ملصق يروّج لإحدى مسرحياتها من تأليف الكاتب المسرحي ادمون روستان.
وكان البورتريه بمثابة نقطة التحوّل التي عرّفت الجمهور بـ موشا ودخل على إثره دائرة الأضواء والشهرة.
كان البورتريه بعد إتمامه عملا تشكيليا يقترب من الكمال. ومن الواضح انه لا يخلو من الإثارة والشاعرية، بألوانه الشفّافة وخطوطه الناعمة وتموّجاته الرقيقة. وتبدو الممثلة هنا بنظرات واثقة وملامح جذّابة ومفعمة بالأنوثة. وقد عمد الرسّام إلى تضمين اللوحة انحناءات حسّية استوحاها من عناصر الديكور وألوان الطبيعة.
وبعد انجاز البورتريه استمرّت العلاقة ما بين الرسّام والممثلة لاكثر من ستّ سنوات عمل أثناءها على ملصقات ولوحات من وحي المسرحيات التي قامت ببطولتها.
وكان أيضا يصمّم ملابسها ومجوهراتها وديكورات مسرحياتها.
وقد أصاب الفونس موشا الكثير من النجاح والشهرة وهو لم يتجاوز بعد سنّ الخامسة والثلاثين.
ولد الفونس موشا في مدينة مورافيا ضمن ما يُعرف اليوم بجمهورية التشيك، وبدأ حياته موسيقيا لكنه سرعان ما تحوّل إلى الرسم بعد أن استهوته الرسومات والايقونات التي كانت تزيّن جدران الكنائس والأديرة في بلدته.
وفي مرحلة لاحقة انتقل إلى باريس حيث تعّرف إلى غوغان واثبت تفوّقا على نظرائه رغم انه كان يصغرهم سنّا.
في ذلك الوقت كانت باريس تشهد ذروة صعود الفنّ الانطباعي وبدايات تبلور المدرسة الرمزية.
وفي أيامه الأولى هناك عانى من الفقر والبطالة وعاش على الإعانات والتبرّعات.
اليوم ينظر التشيك إلى موشا باعتباره رمزا وطنيا وثقافيا. ومكانته في الروح التشيكية المعاصرة لا تقلّ عن مكانة مواطنيه الآخرين ممّن حقّقوا شهرة عالمية مثل الروائي فرانز كافكا والمؤلف الموسيقي الكلاسيكي انتوني فورجاك والرسّامة تمارا دي ليمبتسكا.
ومن أشهر أعماله الأخرى "الملحمة السلافية" وهي سلسلة من اللوحات استغرق إتمامها 18 عاما صوّر من خلالها المحطّات الرئيسية في مسيرة تاريخ السلاف كأمّة.
وعندما غزا الألمان تشيكوسلوفاكيا كان موشا من أوائل من تعرّضوا للاعتقال والمضايقة. وبعد التحقيق معه لبعض الوقت أطلق سراحه وسُمح له بالعودة إلى منزله.
لكنه سرعان ما توفّي بعد ذلك بفترة قصيرة، أي في يوليو من العام 1939، وكان عمره يناهز الثمانين عاما.
أما سارة برنارد فقد كانت امرأة متعدّدة المواهب والاهتمامات إذ كانت تمثل وتغنّي وترسم. ويقال إن قائمة عشّاقها والمعجبين بها تجاوزت الألف اسم، وكان بينهم ساسة ونبلاء ومتنفّذون. ويُعرف عنها أنها كانت تصطحب معها في رحلاتها وأسفارها جيشا من الكلاب والقطط والنمور والتماسيح والأسود. وقد تخطت شهرة برنارد حدود فرنسا وكان لها جمهور ومعجبون في مختلف أرجاء العالم كما طافت مسرحياتها أمريكا وعددا من الدول الأوربية. وكانت صورها وقصص مغامراتها العاطفية حديث المجتمع والصحافة اليومية.
وفي أخريات حياتها عانت مشاكل صحية بُترت على إثرها إحدى ساقيها ثم لم تلبث أن أصيبت بجلطة في الدماغ شلّت نشاطها ودفعت بها إلى العزلة والابتعاد عن الأضواء إلى أن توفّيت في سنّ التاسعة والسبعين.

موضوع ذو صلة: فنّ البورتريه.. صورة المبدع

Monday, October 01, 2007

لوحات عالميـة – 137‏

ذكـــــرى
للفنان البلجيكي رينـيـه مـاغـريـت، 1945

هل يمكن أن يحبّ احدنا عملا تشكيليا ما دون أن يفهم معناه أو يحيط بمضمونه أو يدرك دلالته سواءً كانت فكرية أو أخلاقية أو فلسفية؟
الجواب هو نعم بالتأكيد.
يحدث أحيانا أن ننجذب إلى لوحة ما لمجرّد أنها تنطوي على متعة بصرية أو شعورية، دون أن نفهم بالضرورة معناها أو دلالتها أو الرسالة التي تتضمّنها.
وهذه اللوحة توفّر مثالا على ذلك.
ومنذ بعض الوقت وأنا أحاول تسجيل بعض انطباعاتي عن هذه اللوحة بعد أن اكتشفت أنني أصبحت مفتونا بها ومنجذبا إلى جوّها وتفاصيلها الغريبة والملتبسة.
وكنت قد شاهدتها في بعض المواقع الشعرية والأدبية وفي كلّ مرّة يخامرني نفس الشعور من المتعة والافتتان باللوحة الغامضة.
هنا، كما في كل أعماله السوريالية الأخرى تقريبا، يجمع رينيه ماغريت بين أشياء وعناصر لا رابط منطقيا في ما بينها: كرة مضرب وورقة من شجرة وتمثال نصفي مصنوع من الجبس على ما يبدو. وكل هذه الأشياء موضوعة فوق جدار.
وفي الخلفية هناك ستارة طويلة حمراء تحجب جزءا من السماء التي تبدو ربيعية وغائمة.
لكن الغموض يطلّ علينا من المشهد مجدّدا على هيئة سؤال: ترى ماذا قصد الرسّام بتلك البقعة المستطيلة من الدم التي تغطّي جزءا كبيرا من الخدّ الأيمن للتمثال النصفي ذي الملامح الأنثوية الفاتنة والدقيقة؟
للأسف ‏ ليس هناك جواب على هذا السؤال. لكن المؤكّد أن بقعة الدم تلك تثير إحساسا بالانزعاج والألم. ولولا تلك البقعة لتحوّل المشهد - ربّما - إلى صورة مجازية للهدوء والسكينة والتأمّل الصامت.
أيضا يمكن أن يثور سؤال آخر عن علاقة العنوان بمضمون اللوحة. وهو سؤال تتعذّر الإجابة عنه هو أيضا.
إذن من الأفضل، والحالة هذه، أن ننظر إلى هذه اللوحة باعتبارها قصيدة من الألوان والأشكال الجميلة التي تؤشّر إلى مهارة صاحبها العالية والى حسّه الابتكاري الواضح، رغم افتقاد اللوحة عنصر العفوية والتلقائية ورغم خلوّها من أيّة مشاعر أو انفعالات، وهو أمر قد يكون متعمّدا ومحسوبا بدقّة من قبل الرسّام..
في لوحاته، يحاول ماغريت ترجمة الأفكار المجرّدة إلى أشكال صورية. وغالبا ما تتضمّن أعماله صورا لأشخاص بلا وجوه ولغيوم وطيور وسلالم مرتفعة في الهواء. وكأنه يريد أن يقول إن الحياة ليست إلا حلما وعلينا أن نتعامل معها على هذا الأساس.
في إحدى لوحاته الرائعة الأخرى واسمها إمبراطورية الضوء The Empire of Light ، نرى منظرا لبيت في الليل وقد غطّت الأنوار واجهته. لكن في غمرة انشغال الناظر بالتأمّل في تفاصيل المشهد الليلي الجميل، فإنه لا يلبث أن يكتشف أن السماء فوق البيت نهارية، وأن المشهد بأسره سوريالي بامتياز ولا يمكن أن يخطر إلا بذهن فنّان ساحر ومتجاوز مثل ماغريت.
لوحات ماغريت كأنّها مقاطع من حلم أو أجزاء من لعبة مبعثرة، فالأشكال مهجّنة وغريبة والأشياء والمقاييس مقلوبة وليس هناك اعتراف بقوانين الفراغ والزمن.
إن ماغريت يجذب الاهتمام ويدغدغ الخيال ويثير الأسئلة، لكنها أسئلة لا تقدّم إجابات مقنعة بل ولا توفر أدلة ولا تفتح دروبا أمام المتلقي لإجلاء الغموض وفهم المقصود. "هذا على افتراض أن الفنان يجب أن يفعل ذلك".
وهو يطبّق مقولة اندريه بريتون الذي قال عن السوريالية إنها النقطة التي يتوقّف عندها العقل عن تخيّل العدم.

موضوع ذو صلة: نافذة على عالم ماغريت

Saturday, September 29, 2007

لوحات عالميـة - 136‏

الحـَــرَس الليــلـــــي
للفنان الهولندي رمبـرانــدت، 1642

هذه اللوحة هي أشهر لوحات رمبراندت على الإطلاق، بل ويمكن القول إنها من اكبر الأعمال الفنية حجما إذ تبلغ مساحتها أكثر من مائتي قدم.
ومثلما هو الحال مع بقية لوحاته لجأ رمبراندت، هنا أيضا، إلى لعبة الضوء والعتمة لإضفاء شيء من الحركية والدراماتيكية على المشهد.
اللوحة تصوّر مجموعة من الحرس ينتظرون الأوامر من قائدهم لمباشرة دوريّتهم الليلية المعتادة.
ويقال إن رمبراندت كُلّف بإنجاز هذه اللوحة من قبل قائد الحرس الذي يظهر في منتصف اللوحة معتمرا قبّعة سوداء و "جاكيت" اسود وياقة بيضاء.
تضمّ اللوحة 34 شخصية وهو رقم يندر أن نرى له مثيلا في أيّ عمل تشكيلي آخر.
ويُذكر أن رمبراندت تقاضى على اللوحة مبلغ 16000 غيلدر هولندي وهو مبلغ يعتبر كبيرا جدا في تلك الأيام.
وقد اعتُبرت اللوحة بعد انجازها عملا ثوريا وظلت على الدوام موضع اهتمام كبير من جمهور النقاد والمهتمّين بالفنّ التشكيلي.
فهذا البورتريه الجماعي الذي يُفترض انه يصوّر منظرا ثابتا تحوّل بفضل عبقرية رمبراندت إلى كرنفال صاخب من الضوء والحركة واللون، حيث يختلط فيه ضجيج الناس وقرع الطبول بنباح الكلاب وصرخات الأطفال.
بالإضافة إلى الشخصية المركزية في اللوحة، أي قائد الحرس، هناك مساعده الذي يقف إلى جواره متأهّبا وحاملا عتاده.
ثم هناك الفتاة الصغيرة باللباس الأصفر، ويلاحظ أنها ثبّتت في ثوبها دجاجة ميّتة قد تكون شعارا للحرس أو رمزا لشيء ما لا نعرفه.
عندما أتمّ رمبراندت اللوحة كان عليها طبقة كثيفة من الطلاء اللامع.
وعبر العصور التالية قام ذلك الطلاء بمهمّة الدرع الواقي، وبفضله نجت اللوحة من التلف عندما تعرّضت للهجوم مرّتين، الأولى في العام 1975 عندما قام شخص مختلّ عقليا بمهاجمتها بسكّين.
والثانية في العام 1990 إثر قيام رجل معتوه آخر برشّ حامض الاسيد على اللوحة بقصد إتلافها.
ولحسن الحظ تمكن الحرّاس في الحالتين من السيطرة على الرجلين ومنعهما من إتمام مهمّتها.
وقد لحق باللوحة بعض التلفيات والأضرار جرّاء الحادثتين، لكن أمكن إصلاحها وترميمها بطريقة مقنعة نسبيا.
كان رمبراندت مفتونا برسم الظلال الغامضة التي تستدعي المشاعر والانفعالات المتناقضة.
وكان يميل إلى استعمال الفرشاة العريضة ورسم مسارات من الألوان المتكسّرة واستخدام السكّين وحتى أصابعه في بعض الأحيان. وهذا ما دفع النقاد إلى وصفه بالمزاجية والخروج عن المألوف.
وكان من عادته أن يرسم على ضوء شمعة بعد أن يحكم إغلاق باب غرفته. وهذا هو السبب في انه أصبح يسمّى في ما بعد بـ "فنّان العتمة".
استقبلت اللوحة زمن رمبراندت استقبالا جيّدا، ويُذكر في هذا الصدد أن الخطوط الجوّية الهولندية استخدمت هذه اللوحة في أحد إعلاناتها الترويجية.
"الحَرَس الليلي" طافت بالعديد من متاحف العالم الكبرى وهي اليوم من ضمن مقتنيات متحف ريكس الهولندي.

Wednesday, September 26, 2007

لوحات عالميـة - 135‏

بورتريـه بينـدو آلتـوفيـتــي
للفنان الإيطالي رافـائيــل، 1515

يعتبر رافائيل احد أعظم الرسّامين وأكثرهم أصالة وموهبة.
وكان يعتبر دا فنشي صديقه ومعلمه ووالده الروحي، بينما كانت علاقته مع ميكيل انجيلو عاصفة ومتوّترة معظم الأحيان بسبب التنافس بين الرجلين.
في هذا البورتريه الجميل رسم رافائيل صديقه بيندو آلتوفيتي الذي كان سليل عائلة عريقة من فلورنسا وصديقا للكثير من الفنانين المهمّين في عصره مثل ميكيل انجيلو ورافائيل.
وأوّل ما يلفت الانتباه في هذا البورتريه هو وسامة صاحبه اللافتة وتعابيره الوقورة وملامحه الواثقة وفخامة لباسه وأناقة مظهره بشكل عام. وكلها أمور تشي بثراء الرجل وأصله النبيل.
هناك أيضا التفاتة الرجل والطريقة التي ينظر بها والتي لا تخلو من مسحة مسرحية واضحة.
ومما يجذب الانتباه أيضا في البورتريه روعة وتناغم ألوانه المكوّنة من الكحلي والأصفر ودرجاتهما وكذلك أناقة خطوطه ونعومة تفاصيله. هنا أيضا يمكن أن نتلمّس تعامل الفنان المبهر مع الأثاث والألبسة التي تشعّ بالضوء والألوان المتوهجة والباذخة.
وكالعادة ركّز رافائيل على ملامح الرجل التي تعطي فكرة كافية عن مكانته وأهمّيته في مجتمع عصر النهضة الايطالي.
في ذلك العصر، كان الفنانون والمبدعون يركّزون على تمثيل الأفكار السامية والمثل الأفلاطونية باعتبارها تجسيدا لعظمة ونبل الإنسان.
في سنّ السادسة عشرة ورث آلتوفيتي مصرف والده الذي استطاع من خلاله تكوين ثروة طائلة مكّنته من أن يصبح شخصية متنفّذة عند البابا بول الثالث.
وظلّ نفوذه يمتدّ باطراد إلى أن أعلن على الملأ معارضته لأسرة ميديتشي وعزمه تأييد الحكم الجمهوري في فلورنسا.
غير انه لم يلبث أن قُبض عليه واتهم بالعصيان وصودرت جميع ممتلكاته في توسكاني.
في بعض الأوقات ساد اعتقاد خاطئ بأن رافائيل رسم هذا البورتريه لنفسه، ومما ساعد على رواج هذه النظرية حقيقة أن رافائيل نفسه كان معروفا بوسامته الفائقة وحسن مظهره.
وقد ولد هذا الفنّان رسّاما بالفطرة وكان دائما ميّالا للتفكير المتأمّل والحزين وأعماله جميعها، تقريبا، حتى تلك التي تتناول موضوعات دينية كانت تتمحور حول فكرتي الجمال والصفاء النفسي.
بورتريه بيندو آلتوفيتـي كان وما يزال موضوعـا للتناول والنقاش في أوساط نقّاد الفن والأكاديميين المتخصّصين، وقد ألف ديفيد براون كتـابـا عن قصّة البورتريه وخلفية العلاقة التي ربطت الفنّان المبدع بالمصرفي الوسيم.
توفي رافائيل بالحمّى في يـوم عيد ميلاده السابع والثلاثين ودُفن في البانثيون بروما وسط مظاهر حزن واسعة.

Tuesday, September 25, 2007

لوحات عالميـة - 134‏

بورتـريـه بـيـتـهوفــن
للفنان الألماني جوزيـف كـارل شتـيلـر، 1820

من المؤكّد أن الكثيرين منّا ألفوا رؤية هذا البورتريه أو انه سبق لهم رؤيته ولو مرّة واحدة على الأقل من قبل.
والبورتريه يمثل اليوم أشهر عمل تشكيلي يصوّر بيتهوفن، أكثر المؤلفين الموسيقيين تأثيرا وشهرة على مرّ العصور.
وأهمية البورتريه تكمن في انه أنجز خلال حياة بيتهوفن نفسه، وبالتحديد في ربيع العام 1820، أي انه ينقل لنا بكثير من الوضوح والدقّة ملامح وجه الموسيقي الشهير وبعضا من مظاهر عبقريته.
وقد استُنسخ وطبع من هذا البورتريه منذ انجازه ملايين النسخ ويمكن رؤيته على أغلفة الكتب والاسطوانات المدمجة التي تتضمّن أعمال بيتهوفن الموسيقية.
أمّا فكرة رسم البورتريه فكانت بناءً على طلب من فرانز برينتانور وزوجته اللذين كانا صديقين لبيتهوفن.
المعروف أن بيتهوفن كان يعاني دائما من آلام الظهر المزمنة بالإضافة إلى ظروف إعاقته. لذا فقد اضطرّ إلى أن يجلس أمام الرسّام أربع مرّات وفي أوقات متفاوتة لكي يتجنّب آلام الجلوس الطويل على الكرسي.
في اللوحة يظهر بيتهوفن ممسكا القلم بيد وباليد الأخرى كراسّ نوتة موسيقية مكتوبا على غلافها اسم إحدى مقطوعاته الموسيقية بالألمانية.
وطريقة وقوفه وطبيعة نظراته توحي بأنه مستغرق في تأمّل عميق انتظارا لما قد يجود به الإلهام من موسيقى وألحان.
وليس مستغربا أن الرسّام اختار رسم بيتهوفن في غابة، حيث عُرف عن الأخير افتتانه الشديد بالطبيعةُُُُ وقد خصّص العديد من مقطوعاته الموسيقية لوصف الطبيعة والتغنّي بجمالها.
في بدايات القرن التاسع عشر كان الفنان جوزيف شتيلر يحظى بشعبية واسعة، وقد عمل في إحدى فترات حياته رسّاما في بلاط امبراطور بافاريا ورسم بورتريهات لكل من الشاعر والفيلسوف غوته والملكة اليونانية اماليا وملك نابولي بالإضافة إلى عدد من النبلاء وأفراد العائلات الملكية في النمسا وبروسيا والسويد.
وكما هو الحال في أعماله الأخرى، ابتعد جوزيف شتيلر عن النواحي الزخرفية واستخدم الألوان الفاتحة والداكنة معا لكي يبرز أكثر الملامح المميّزة لوجه الشخصية.
ذات مرّة قال احد الكتاب واصفا هذا البورتريه أن بيتهوفن يبدو فيه مثل عالم مجنون يجلس في معمله ويمزج مكوّناتٍ وعناصرَ لا يمكن أن تجتمع كلها في مكان واحد. انه يطلق طاقته المكبوتة ليأتي لنا بهذا المزيج المتفجّر والمدهش من الموسيقى والألحان التي لا تخطر على بال".
بيتهوفن كان احد مؤسّسي الرومانسية الموسيقية في القرن التاسع عشر، وكان عازفا بارعا على آلتي الفيولين والبيانو. وفي الفترة من 1800 – 1815 ألف أعظم أعماله الموسيقية على الإطلاق، أي سيمفونياته الشهيرة من الثانية إلى الثامنة.
وفي نهايات حياته أصبح يهتم بتأليف الترانيم المقدّسة والموسيقى الجنائزية، كما كتب أيضا السيمفونية التاسعة والتي استوحى فكرتها من قصيدة للشاعر شيللر يمجّد فيها الأخوّة الإنسانية والأفكار المثالية.

موضوع ذو صلة: بين بيتهوفن وغوته

Friday, September 21, 2007

لوحات عالميـة - 133‏

نابليـون عابـراً جبـال الألـب
للفنان الفرنسي جـاك لـوي دافيـد، 1801

رسم جاك لوي دافيد هذه اللوحة الشهيرة بناءً على طلب نابليون بونابارت.
في ذلك الوقت، لم يكن القائد الفرنسي قد تُوّج امبراطورا بعد. لكنّه كان بحاجة إلى شرعية تاريخية تؤهّله لأن يصبح حاكما مطلقا على فرنسا.
ووجد أن حادثة قيادته جيشا عَبـَر به جبال الألب في ربيع عام 1800 في محاولة لمفاجأة جيش النمسا المتمركز في ايطاليا تصلح لان تكون موضوعا لعمل فني يذكّّر من خلاله العالم انه ثالث جنرال في التاريخ يحقّق ذلك الانجاز بعد كلّ من شارليمان وهانيبال.
وقد أصّر نابليون على ألا يجلس لرسم البورتريه، كما لم يكن مهتمّا كثيرا بأن يظهر بهيئته الحقيقية.
كل ما كان يشغله هو أن يبذل الفنان قصارى جهده ليرسم حصانه بطريقة تعطي انطباعا عن جسارة صاحبه وقوّته وشجاعته.
هذا على الرغم من حقيقة أن نابليون عندما عبر جبال الألب لم يكن يمتطي حصانا بل بغلا، وذلك نزولا عند نصيحة مستشاريه الذين أقنعوه أن البغال أكثر قدرةً على التحمّل والعمل في الأجواء الشديدة البرودة.
في اللوحة يظهر نابليون في لباس جنرال وقد اعتمر قبّعة وتقلّد سيفا مرصّعين بالذهب وتوشّح رداءً احمر طويلا تلوّحه الريح.
كما يبدو رأسه مائلا باتجاه الناظر بينما راح يومئ بيده اليمنى إلى شيء ما أمامه. أما اليد اليسرى فقد شدّ بها رسن الحصان الذي اخذ بالتراجع إلى الخلف بفعل اشتداد الرياح وقسوة المناخ. ورغم ذلك، لا تبدو على ملامح وجه نابليون أيّ علامات بالإحساس بالبرد أو التعب.
وفي الخلفية يمكن رؤية بعض الجنود بأسلحتهم وعتادهم وهم يجاهدون لصعود الجبال تحت سماء رمادية مثقلة بالغيوم.
وفوق الصخور المثلجة الظاهرة في مقدّمة اللوحة حفر الفنان أسماء شارليمان وهانيبال ونابليون.
أثناء حياته، كان يُنظر إلى نابليون ليس باعتباره احد أعظم القادة العسكريين في التاريخ فحسب، وإنما أيضا إلى كونه إداريا مدنيّا من الطراز الأول.
إذ لم يكتفِ بإحداث تغييرات راديكالية في المؤسّسة العسكرية والجيش وإنما اشرف أيضا على وضع "قانون نابليون" الذي كان نواة للقانون المدني في ما بعد. كما أعاد تنظيم التعليم وعقد اتفاقية طويلة المدى مع المؤسّسة البابوية.
من الواضح أن هذه اللوحة التي استغرق انجازها سنتين كانت مجرّد دعاية سياسية محضة.
ومن المعروف أن نابليون كان يرعى ويدعم رموز الحركة النيوكلاسيكية، ومن ضمنهم الفنّان دافيد، الذين كانوا يستقون أفكارهم ومواضيع أعمالهم من التراث الكلاسيكي الذي خلّفه فنّانو اليونان وروما.
الجدير بالذكر أن نابليون أصبح حاكما على فرنسا في العام 1799، وامتدّت امبراطوريّته لتشمل معظم أرجاء أوربّا.
لكنه في ما بعد مُني بهزيمة كبيرة في لايبزيغ وأجبر على التنازل عن عرش فرنسا في العام 1814 م.
وما كاد ينجح في جمع شتات أنصاره ومؤيّديه حتى تلقّى هزيمة قاسية أخرى ونهائية في واترلو عام 1815 م.
وفي أواخر حياته نُفي إلى جزيرة سينت هيلينا الموحشة، وبقي فيها إلى أن مات بالسرطان عام 1821 م.

Tuesday, September 18, 2007

لوحات عالميـة - 132‏

جيــوديكـــا
للفنان البريطاني جـوزيف تيــرنــر، 1841

تعتبر هذه اللوحة أحد أروع الأعمال الفنية التشكيلية التي تتّخذ من مدينة البندقية موضوعا لها.
كما أنها تقدّم مثالا آخر على عبقرية جوزيف تيرنر في تمثيل الخصائص الغامضة للماء والضوء والغيم من خلال هذه الصورة البصرية البديعة عن تجربته في المدينة الايطالية.
هذه اللوحة بيعت العام الماضي في مزاد كريستي بـ نيويورك بمبلغ 36 مليون دولار. وهي واحدة من ثلاث لوحات زيتية بدأ تيرنر رسمها في العام 1821 م لصالح الأكاديمية الملكية للفنون.
واللوحة تصوّر منطقة قنال جيوديكا ذات يوم غائم، حيث تظهر في الوسط سان جيورجيو والى اليسار مادونا ديلا ساليوت والى اليمين كنيسة زيتيلا.
في هذا المشهد المبهج الذي يغلب عليه اللون الأصفر وتدرّجاته المختلفة، يبدو الماء شفيفا رائقا وتبدو المباني الظاهرة في الخلفية كما لو أنها تذوب وتغرق في الضوء.
وقد استخدم الفنان ألوانا سميكة كي يمسك بتأثيرات الماء والضوء وانعكاساتها على الأبنية كما استخدم ضربات فرشاة دقيقة كي يؤكّد على التفاصيل الجميلة للكنيسة ولرجال القوارب.
عُرف تيرنر بميله لرسم الأشكال والخطوط التي تتحوّل إلى ضباب ودخان أو إلى ضوء قويّ يتساقط من السماء أو يتصاعد من الماء.
كما كان يركّز دائما على إظهار التباين بين الأجسام والأشياء القريبة والبعيدة. لكن أهمّ سمة في أعماله هي انبهاره الكبير بالمؤثرات البصرية للماء والنار وعناصر الطبيعة إجمالا.
وقد اعتمد الفنان في رسمه اللوحة على مجموعة من الألوان المائية التي عمل على توليفها خلال زيارته للبندقية في العام الذي سبق رسمه للوحة.
وأخيرا، يصنّف تيرنر باعتباره احد أعضاء الحركة الرومانسية، بينما يعتبره آخرون رائدا من روّاد الانطباعية الأوائل.

موضوع ذو صلة: ترنيمة العبيد

Saturday, September 15, 2007

لوحات عالميـة - 131‏

رقصــة الحيــاة
للفنان النرويجي إدفـارد مونـك، 1900

لوحة أخرى من لوحات ادفارد مونك "أو مونش كما يُنطق اسمه أحيانا" وفيها يحاول تصوير الطبيعة المتغيّرة للمرأة، بدءا من طور البراءة إلى النضوج الجنسي والعاطفي ومن ثمّ إلى مرحلة الشيخوخة التي تفقد المرأة خلالها الكثير من جاذبيّتها وفتنتها.
إلى يسار اللوحة تظهر شابّة جميلة بخدّين متورّدين وهي تخطو إلى الأمام بذراعين مفتوحين وقد تفتّحت إلى جوارها زهور الربيع، ربّما علامة التفاؤل والإقبال على الحياة.
وفي الوسط نرى رجلا يراقص امرأة وقد اتّحدا في ذوبان حميم وكأنهما جسد واحد. ويظهر أن ثوب المرأة الأحمر يثير الرجل ويؤجّج حماسه.
والى أقصى اليمين تبدو امرأة ترتدي فستانا اسود وهي تقف كتمثال صامت وقد شبكت يديها أمامها وعلت ملامحها نظرات باردة وكئيبة.
وفي الخلف أيضا هناك صور لأزواج آخرين من الرجال والنساء وهم منهمكون في الرقص.
بالنسبة لمونك، كان الرسم على الدوام وسيلة للتعبير عن مشاعر الحزن والألم.
وفي الواقع فإن كثيرا من رسوماته تعبّر عن المصاعب والآلام التي مرّ بها في طفولته وشبابه، كما أن مضمون لوحاته يجسّد إلى حدّ كبير صورة المجتمع المتديّن والقمعي الذي عاش في كنفه وتأثير ذلك على أفكاره ونظرته للحياة.
ومن بين السمات الأخرى لأعماله الحضور المتكرّر لأسطورة سقوط الإنسان بالإضافة إلى القلق الوجودي والمسحة التشاؤمية التي تغلب على عدد غير قليل من لوحاته.
ولد الفنان في النرويج ذات الطبيعة الباردة والمظلمة معظم أيام السنة. وعاش حياة بائسة فقد توفّيت والدته بمرض السّل وعمره لم يتجاوز الخامسة، وما لبثت شقيقته الوحيدة التي كان يعتبرها مصدر عزائه الوحيد بعد رحيل أمّه، لم تلبث أن واجهت نفس المصير.
ولكي يعوّض عن الحنان الذي افتقده برحيل والدته وأخته، أصبح ميّالا لمصاحبة النساء مع انه لم يتزوّج أبدا طيلة حياته.
في "رقصة الحياة" يمزج مونك بين تمثيل الطبيعة والأسلوب الرمزي. وغموض الفكرة يؤدّي إلى ربط الصورة بالحياة المدنية الحديثة من جهة وبالطقوس البدائية للفصول من جهة أخرى.
وقد عبّر الفنان ذات مرّة عن فهمه للعلاقة بين دوران الحياة وتعاقب الفصول بقوله: إننا نكرّر أنفسنا مثل حبّات الكريستال التي تذوب لتتشكّل من جديد".
وفي اللوحة، وكما هي عادة مونك في العديد من لوحاته، هناك المنظر المألوف لشمس أو قمر يلقي بضوئه الشاحب على المشهد.

Saturday, September 08, 2007

لوحات عالميـة - 130‏

صائدات المحار على شواطئ كانكال
للفنـّان الأمريكـي جون سنغر سارجنت، 1878

كثيرة هي الأعمال الفنيّة التشكيلية التي تتّخذ من حياة البحر موضوعا لها. لكن ما يجعل هذه اللوحة مختلفة ومتميّزة عما سواها الحساسية الفائقة التي نفذّت بها والتوازن المدهش بين عناصرها ومفرداتها وهو ما ينعش المشهد كله ويضفي عليه شعورا بالغبطة الغامضة.
والأمر الثالث هو أن صاحب اللوحة رسمها ولم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره.
في تلك السنّ الغضّة كان جون سارجنت يقيم في باريس التي درس فيها الفنّ واختارها وطنا ثانيا بعد أن اجتذبه سحرها وأضواؤها.
وكانت هذه اللوحة نقطة تحوّل كبرى في حياة سارجنت الفنية. إذ عندما عرضها في صالون باريس من العام 1878 استقبلت بالكثير من الحفاوة والتقدير رغم انه كان وقتها ما يزال يمارس التجريب محاولا تلمّس طريقه في وسط يكثر فيه المشاهير والمبدعون.
واللوحة تصوّر منظرا في قرية كانكال بمقاطعة بريتاني الفرنسية التي ارتبطت منذ القدم بحياة البحر واشتهرت بمينائها وشواطئها الجميلة.
وكان سارجنت قد زار القرية في السنة التي سبقت رسمه للوحة، ولم يكن فيها سوى النساء والأطفال، حيث كان من عادة الرجال في مثل ذلك الوقت من كلّ عام أن يرحلوا باتّجاه البحر بحثا عن صيد وفير من الأسماك التي كانت مصدر رزقهم الوحيد.
أما النساء فكنّ يذهبن بصحبة أطفالهن إلى الشاطئ بحثا عن المحار والصدف. وكانكال معروفة منذ القدم بكثرة محارها وما زالت تنتج حتى اليوم أكثر من ثمانين بالمائة من إجمالي ما تنتجه فرنسا منها.
في اللوحة نرى مجموعة من النساء يرتدين ملابسهن التقليدية ويحملن السلال وهنّ في طريقهن إلى الشاطئ.
وفوق تبدو السماء وقد امتلأت بالغيوم التي انعكست ظلالها على تجمعّات المياه الصغيرة في الأسفل. ومن الواضح أن الفنّان رسم هذا الجزء من اللوحة بطريقة مرهفة ولا تخلو من شاعرية، لدرجة أن الناظر يمكن أن يلمس بيديه لزوجة الماء ورطوبة الرمل في هذه الصورة البديعة التي امتزج فيها اللون والضوء.
ولد جون سارجنت في فلورنسا بإيطاليا وتأثّر برسومات الانطباعيين وبأعمال الرسّام الاسباني فيلاسكيز.
ورغم كونه ينحدر من عائلة أمريكية فإنه لم يزر الولايات المتّحدة سوى مرّة واحدة في حياته ولم يمكث هناك طويلا إذ سرعان ما عاد إلى فرنسا.
وسارجنت يعتبر اليوم احد أكثر الرسّامين شهرةً في العالم والطلب على لوحاته في ازدياد مطّرد.

Tuesday, September 04, 2007

لوحات عالميـة - 129‏

جــــــان دارك
للفنّان الفرنسي جول باستيان ليباج، 1880

كانت جان دارك فتاة ريفية بسيطة وغير متعلّمة. لكن لأنها تأثّرت بوالدتها فقد نشأت كاثوليكية متديّنة، وكانت تصرف الساعات الطوال في التجوال في الغابات والحقول لوحدها مصلّية متأمّلة.
وفجأة وقع حادث غيّر مسار حياتها رأسا على عقب، وتمثل في غزو انجلترا لأراضي فرنسا خلال ما عُرف بحرب المائة عام.
في ذلك الوقت كانت هناك نبوءة راجت بين الفرنسيين مفادها أن فرنسا ستُحتلّ بسبب امرأة وستتحرّر على يد امرأة.
تقول بعض المصادر التاريخية إن جان دارك كانت مستبصرة، أي أنها كانت تتوقّع الأحداث المستقبلية قبل وقوعها بفضل الأصوات التي كانت تسمعها والرؤى التي كانت تراها.
وفي أحد الأيام أخبرت والدها أنها رأت نورا آتيا من السماء مصحوبا بأصوات تخبرها بأن تحرير البلاد سيكون على يديها.
وتكرّرت الرؤيا مرارا وصارت جان دارك تتحدّث عن قدّيسين وقدّيسات يظهرن لها في الحقول والغابات.
ولما كان الناس آنذاك ميّالين لتصديق مثل هذه القصص، فقد اعتبروا ما روته لهم جان دارك معجزة إلهية.
في هذه اللوحة نرى جان دارك تتجوّل في حديقة منزلها حيث كانت تمارس الصلاة والتأمّل مصغية إلى الأصوات العلوية، فيما تظهر وراءها بين الأشجار أطياف وظلال لقدّيسين وملائكة ينقلون إليها تعاليم السماء وندبها لها بأن تتولّى تلك المهمّة الخطيرة.
مع مرور الأيام، تعلّمت جان دارك فنون القتال وفي مرحلة لاحقة تمكّنت من الاتصال بالملك شارل، فعهد إليها بقيادة الجند الذين استطاعت كسب ثقتهم وأقنعتهم بأن النصر قادم على يديها بمؤازرة الملائكة والقوى الغيبية.
لكن الانجليز لم يطمئنوا لتصرّفات المرأة وظنّوا أنها ساحرة، ومما زاد في انزعاجهم تزايد حظوظها عند الناس وتقديسهم لها وتصديقهم لدعاواها.
وفي ابريل من عام 1429 سيّرت جان دارك جيشا باتجاه اورلينز فحرّرتها وتمكّنت من طرد الانجليز منها.
وتكرّست أكثر فأكثر صورة المرأة في أذهان العامّة الذين أصبحوا ينظرون إليها باعتبارها منقذا ومخلصا أرسله الله إليهم.
لكن في السنة التالية وقعت جان دارك في اسر الانجليز ولم يفعل الملك شيئا من اجل إنقاذ حياتها بسبب ضعفه وتخاذله.
وقدّمت للمحاكمة في نفس العام بتهمة السحر والهرطقة وأعدمت حرقا عام 1431 بعد مصادقة الكنيسة الانجليزية على الحكم.
من بين ما يجذب العين في هذه اللوحة الجميلة تفاصيلها الكثيرة وتناغم الألوان فيها. ومن الواضح أن الرسّام قام بصهر الألوان وإذابتها في مقدّمة وخلفية المشهد من خلال استخدام طبقات متعدّدة من الألوان والظلال من اجل إعطاء الناظر إحساسا حقيقيا بسحر الطبيعة ولتكثيف الجوّ الواقعي للقصّة والتأكيد على حضور العناصر الدينية والروحية والميتافيزيقية في المشهد.
ثم هناك بساطة هيئة المرأة، فملابسها عادية جدا: تنّورة بنية طويلة وقميص ازرق غامق وياقة بيضاء. وهذه التفاصيل تشي ببيئتها الزراعية وبالطبقة الفقيرة التي أتت منها.
ومما يلفت الاهتمام أيضا في هذه اللوحة عينا المرأة اللتان تشعّان بالثقة الممزوجة بالحزن على ما آل إليه مصير بلدها.
بعد مرور ربع قرن على إعدام جان دارك، طالبت عائلتها بإعادة محاكمتها وثبتت براءتها من التهم التي نُسبت لها.
وفي القرون اللاحقة تحوّلت هذه المرأة إلى أسطورة وأصبحت سيرة حياتها موضوعا خصبا للفنّانين والشعراء والروائيين والموسيقيين. كما ظهرت العديد من الأفلام السينمائية التي تتحدّث عنها وعن بطولاتها.
أما باستيان ليباج فلا يُعرف عنه الكثير، باستثناء انه توفّي وعمره لا يتعدّى السابعة والثلاثين.
وفيما عدا هذه اللوحة لا يكاد يتذكّره اليوم أحد.

Wednesday, August 29, 2007

لوحات عالميـة - 128‏

تمثـال سينـت تيريـزا
للنحّات الإيطالي جيان لورنزو بيرنيني، 1652

يمكن اعتبار جيان لورنزو بيرنيني أشهر نحّات أوربّي ظهر في القرن السابع عشر.
وقد وصلت موهبة بيرنيني أوج نضجها عندما فرغ من انجاز هذا التمثال الذي وضع في ما بعد في كنيسة كورنارو بروما وما يزال فيها حتى اليوم.
والتمثال يصوّر قصّة عشق صوفية روتها الراهبة الاسبانية المشهورة سينت تيريزا في كتاب سيرتها الذاتية.
تقول القصّة إن الراهبة رأت ذات ليلة ملاكا جميلا يقف إلى جوارها وفي يده سهم ذهبي في طرفه لهب مشتعل. ولم يلبث الملاك الصغير أن غرس السهم في قلب الراهبة وعندما انتزعه من صدرها خيّل لها انه انتزع أحشاءها معه. كان الألم رهيبا، بحسب الراهبة، لكنه كان مصحوبا بلذّة عظيمة تمنّت لو أنها لا تغادرها أبدا.
والواقع أن التّراث الصوفي بمجمله يتحدّث كثيرا عن الحب الإلهي وعن السُّكْر الروحي وكيف أن الألم يمكن أن يسعد صاحبه من حيث يشقيه ويعذّبه لأنه يتحوّل بفعل الشوق والمكابدة إلى لذّة.
وفي قصائد الشعراء المتصوّفة إشارات كثيرة تحيل إلى هذا المعنى.
وفي العصر الحديث كثرت المقولات والنظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقرن ما بين اللذّة والألم باعتبارهما صنوين لا يفترقان.
في التمثال يبدو الملاك المجنّح وهو يسحب السهم من جسد الراهبة بينما تتراجع هي متثاقلة إلى الوراء بفم مفتوح وعينين مغمضتين وقدمين عاريتين تحت تأثير الشعور بالافتتان والنشوة.
هذه الكتلة الضّخمة من الرّخام الذي استحال بفضل عبقرية بيرنيني إلى لحم بشري ناعم، قد لا ينطبق عليها وصف العمل النحتي بمعناه التقليدي، إنها اقرب لأن تكون صورة مشهدية مكوّنة من نحت ورسم وضوء.
والتمثال يعبّر عن رؤية بيرنيني التي تتداخل فيها العناصر المعمارية والزخرفية ضمن فراغ هندسي تنصهر فيه القيم الجمالية وتتوحّد.
وقد كان بيرنيني نفسه مهجوسا بفكرة السيطرة على منحوتاته، ولهذا السبب ركّز على فنّ العمارة فدرس أشكالها وأسرارها وجمالياتها المختلفة.
في المشهد تبدو الراهبة مرتدية ثوبا يغطّيها من الرأس إلى القدمين، أما الملاك فيظهر وقد انحسر رداؤه عن احد منكبيه بينما راح الضوء الخفيف يتسلل عبر النافذة المفتوحة خلفهما.
وحالة النشوة هنا يمكن أن يعبّر عنها شلال الخيوط الذهبية المتساقطة من أعلى أكثر من تعابير الوجه أو ارتعاش اليدين والقدمين.
أما القدّيسة تيريزا نفسها فقد عاشت في فترة شهدت أوربا خلالها الكثير من الاضطرابات الدينية والسياسية، وكانت حياتها مضرب المثل في الزهد والتقشف وألفت العديد من الكتب والرسائل التي تتحدّث فيها عن الوسائل المؤدّية إلى التوحّد مع الله والفناء في محبّته، على نحو يذكّرنا برابعة العدوية أشهر امرأة متصوّفة في تاريخ الإسلام.

موضوع ذو صلة: بيرنيني.. عندما ينطق الحجَر

Saturday, August 25, 2007

لوحات عالميـة - 127‏

بورتريه بالداسار كاستيليوني
للفنان الإيطالي رافـائيــل، 1515

أحد ملامح عظمة رافائيل وتميّزه عمّن سواه من الرسّامين هو براعته الفائقة في فنّ البورتريه.
كان يلتقط الحالة الروحية والإنسانية والاجتماعية لشخوصه ثم يضيف إلى ذلك من الإيحاءات والدلالات الخاصّة ما يعين الناظر على التعرّف عن قرب على طبيعة الشخص ومكانته إلى غير ذلك من السمات الشخصية.
هذا البورتريه يعتبره بعض نقّاد الفنّ واحدا من أعظم البورتريهات التي أنجزت خلال عصر النهضة الايطالي، لدرجة أن الرسّام الهولندي روبنز قام باستنساخه وتقليده تعبيرا عن إعجابه به وبالأسلوب الذي ُنفّذ به.
وأوّل ما يميّز البورتريه روعة تصميمه ونعومة خطوطه وانسجام ألوانه واتّساق بنائه الهندسي العام.
ويأتي بعد ذلك موضوع البورتريه نفسه، إذ انه يصوّر شخصية فكرية يعتبرها الكثير من المؤرّخين من أهم شخصيات عصر النهضة الايطالي.
كان بالداسار كاستيليوني يعمل في بلاط اوربينو في بدايات القرن السادس عشر وكان كاتبا وأديبا بارزا ذا نزعة إنسانية.
ولعلّ احد أسباب شهرة كاستيليوني ترجع إلى كونه مؤلف كتاب "رجل البلاط" الذي اعُتبر احد أعظم الكتب في زمانه.
وقد كان لذلك الكتاب تأثير كبير في صياغة الأعراف والسلوكيات المفترض أن يتحلى بها رجال الحاشية والدائرة المقرّبة من الحكام والأمراء والولاة.
وتعدّى تأثير الكتاب حدود ايطاليا ليشتهر وينتشر في مختلف بلدان أوربا في ذلك الوقت.
في كتابه، يستعرض كاستيليوني جوانب من ثقافة وملامح عصر النهضة في ايطاليا، كما يتطرّق إلى طبيعة التفكير والعلاقات ومظاهر الايتيكيت والأعراف الرسمية والديبلوماسية التي كانت سائدة في بلاط اوربينو حيث كان يعمل.
ولا بدّ وأن رافائيل فكّر في رسم بورتريه لكاستيليوني مدفوعا بصداقته للرجل وقربه منه وكبادرة على احترامه وتقديره لفكره وعلمه.
مما يلفت الانتباه أيضا في هذا البورتريه براعة رافائيل في توظيف تقنية الفراغ الثلاثي الأبعاد من خلال رسم الأشكال الدائرية والبيضاوية التي تتخلل المنكبين والذراعين والأكمام.
ثم هناك الاستخدام المتقشّف والأنيق في توظيف الألوان التي يغلب عليها الأسود والرمادي وتدرّجاتهما المختلفة.
وبشكل عام فإن البورتريه ينقل لنا صورة رجل على درجة عالية من الذكاء والانضباط والوقار.
كما يشي البورتريه بالهدوء الداخلي لصاحبه وبالأخلاق والحكمة والمعرفة التي ُيتوقّع أن يتحلى بها رجل ينتسب إلى طبقة الأعيان والنبلاء.

Wednesday, August 22, 2007

لوحات عالميـة - 126‏

إمــرأة تقــرأ كتــابا
للفنان الفرنسي جان اونوريه فراغونار، 1772

يحدث أحيانا أن ينجذب أحدنا إلى لوحة ما ويشعر بمتعة النظر إليها والتمعّن في تفاصيلها مرّة بعد أخرى، دون أن يعرف على وجه التحديد ما الذي يشدّه إليها أو يعجبه فيها.
هذا الكلام ينطبق إلى حدّ كبير على هذه اللوحة الرائعة التي تنطق جميع تفاصيلها بالإبداع المبذول في إنجازها والرّقة التي تعامل بها الفنان وهو يرسم خيوطها الدقيقة وألوانها الناعمة والبديعة.
يصنّف جان اونوريه فراغونار باعتباره أشهر رسّام شاعري فرنسي خلال القرن الثامن عشر.
كان غزير الإنتاج إذ رسم أكثر من خمسمائة لوحة تناولت مواضيع عديدة ومتنوّعة.
وفي بدايات احترافه للرسم تتلمذ فراغونار على يد فرانسوا بوشير ثم سافر إلى ايطاليا ومكث فيها أربع سنوات قلّد أثناءها لوحات كبار فنّاني الباروك ورسم مناظر للطبيعة والريف الايطالي.
قضى الفنان الجزء الأكبر من حياته خلال ما عرف بالفترة النيو كلاسيكية، لكنه مع ذلك ظلّ يرسم بأسلوب الروكوكو إلى ما قبيل اندلاع الثورة الفرنسية.
وما لبث أن أبدى اهتماما خاصّا برسم المناظر المنزلية المستوحاة من فلسفة جان جاك روسو الأخلاقية ومن بعض الروايات العاطفية.
وقد كان فراغونار بارعا مثل أستاذه بوشيه في رسم وجوه وأجساد لنساء شابّات رغم انه كان يهتم أكثر بإظهار انفعالاتهن ومشاعرهن.
هذه اللوحة تعتبر واحدة من أشهر اعمال فراغونار، وبعض نقاد الفن يعتبرونها أفضل عمل تشكيلي يصوّر فكرة المرأة القارئة. وفيها نرى امرأة شابة وهي منهمكة بوقار في قراءة كتاب.
وأوّل ما يمكن ملاحظته في هذه اللوحة هو التوازن الجميل بين عناصرها الرئيسية: الكتاب ويد المرأة ووضعية رأسها وانبساط جسدها المستند إلى الأريكة.
وبالإمكان أيضا أن نلمح هنا شيئا من سحر رينـوار وأسلوبه المتفرّد، خاصة في توزيع الإضاءة واستخدام ضربات فرشاة سريعة وعريضة مع ألوان مذابة قوامها الليلكي والزعفراني والأبيض والزهري وتدرّجاتها المختلفة.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة الأسلوب البارع الذي اتبعه الفنان في رسم أصابع يد المرأة الممسكة بالكتاب وفي تمثيل الياقة العريضة والانثناءات والالتواءات التي تتخلل ثوب المرأة نزولا إلى الرداء الذي تجلس عليه.
كان فراغونار نفسه رجلا مثقفا ومحبّا للقراءة، وله العديد من اللوحات التي صوّر فيها قتيات ونساءا في لحظات عزلة وتأمّل صامت.
كما رسم سلسلة لوحات أخرى أطلق عليها اسم اللوحات الفانتازية ضمّنها رؤيته عن الموسيقى والفنون والشعر.
قضى فراغونار السنوات الأخيرة من حياته في حال من النسيان والفقر والعزلة ومات وحيدا عام 1806 دون أن تثير وفاته انتباه احد من زملائه أو مريديه. ويضمّ متحف اللوفر اليوم خمسا من أهم لوحاته فيما تستقرّ لوحته الشهيرة الأخرى الأرجوحة في متحف المتروبوليتان بنيويورك.