Friday, October 21, 2005

لوحـات عالميـة – 67


تمثــال ديـفيـــد
للفنان الايطالي ميكيل انجيـلو، 1504

عمل آخر يجمع النقاد والمؤرّخون على اعتباره واحدا من اعظم الأعمال النحتية على مرّ العصور.
في العام 1501 تم تكليف ميكيل انجيلو بنحت تمثال ديفيد (داود) لتُزَيّن به كاثدرائية فلورنسا. ومن اجل هذا الغرض، ُأعطي الفنان كتلة ضخمة من الرخام للعمل عليها وتشكيلها لانجاز المهمة.
وعندما شرع ميكيل انجيلو في العمل، أزاح جانبا كافة الأساليب التقليدية التي كانت متبعة من قبل في تنفيذ الأعمال النحتية.
وعندما أنجز الفنان التمثال، قرّرت لجنة من الأعيان وكبار الفنانين وضعه في الميدان الرئيسي للمدينة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ُيعرض فيها تمثال لرجل عارٍ في مكان عام.
وقد تعمّد ميكيل انجيلو ألا يصوّر ديفيد بهيئة الرجل المنتصر الممسك برأس العملاق غالاياث Goliath (أو جالوت في الأدبيات الإسلامية) بيده والسيف باليد الأخرى، بل اختار تصوير ديفيد في اللحظة التي سمع فيها أن قومه وقعوا فريسة للخوف والتردّد في مواجهة صلف غالاياث الجبّار وإمعانه في احتقارهم والاستهزاء بهم.
ميكيل انجيلو صوّر ديفيد في افضل وضع ممكن، محاكيا أساليب نحاتي الإغريق في تصوير أبطالهم ورموزهم الملحمية.
فـ "ديفيد" ينظر من فوق كتفه الأيسر نظرة تحدّ وجسارة إلى الجهة الأخرى حيث يقف غالاياث. وقد ُترك الجانب الأيمن من التمثال ناعما ومصقولا، بينما اختار الفنان أن يضفي قدرا من النشاط والديناميكية على الجانب الأيسر، ابتداءً من القدم صعودا حتى الشعر الاجعد. أما العضلات والأربطة فلا تبدو نافرة أو بارزة سوى بالقدر الذي يعطي الناظر انطباعا عن قوّة إرادة البطل ورباطة جأشه.
فور عرض التمثال، بادر مواطنون غاضبون برشقه بالحجارة، لا لأنه كان عاريا، بل لأنهم رأوا فيه رمزا لجمهورية فلورنسا التي كانت خارجة على حكم آل ميديتشي. ومع ذلك صمد التمثال في مكانه واعتُبر على الدوام رمزا ايقونيا لفلورنسا الصغيرة ولأفكارها الجمهورية، في مواجهة خصمها الأكبر عائلة ميديتشي ومناصري الملكية.
في العام 1873 ُنقل التمثال من مكانه إلى غاليري الأكاديمية لحمايته، وفي العصور اللاحقة خضع للعديد من عمليات الترميم التي أثار بعضها نقاشات حادّة ما بين مؤيّد ومعترض.
ومؤخرا احتفل الإيطاليون بمرور 500 عام على إنجاز تمثال ديفيد، وأحيوا المناسبة بالألعاب النارية والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والندوات التي تناولت كل جانب من جوانب هذه التحفة الفنية الخالدة بالشرح والنقاش والتحليل.
وما يزال ميكيل انجيلو نفسه يتمتّع بنفس الشهرة التي كان يتمتّع بها في العام 1501 ، إذ يتقاطر على فلورنسا سنويا اكثر من مليوني شخص لالقاء نظرة على تمثال الرجل العاري ذي الملامح الجميلة والتفاصيل الدقيقة والقوام الضخم (اكثر من ستة أطنان).
إن أهمية تمثال ديفيد بالنسبة لعصر النهضة هي انه كان يشكّل قطيعة مع التراث اللاهوتي المسيحي الذي كان يصوّر الإنسان باعتباره كائنا مسيّرا وفاسدا وضعيفا لا يملك من أمر نفسه شيئا، وأن على الإنسان أن يتطلع بكليّته إلى الحياة الأخروية التي تمثّل السعادة والحقيقة والكمال. ولم يكن مصادفة أن الإنسان كان ُيصوّر في القرون الوسطى كوحش مشوّه يتطلع إلى تحرير روحه من اسر الخطيئة الأصلية من خلال الموت الطقوسي والعنيف.
وتمثال ديفيد، بما ينطوي عليه من رموز ودلالات وعبَر، هو نقيض للأفكار القدرية، وهو افضل تعبير عن رؤية عصر النهضة للإنسان. فالراعي الشاب "ديفيد" قرّر باختياره الواعي أن يقاتل عدوّا أقوى منه لكي ينقذ قومه من الهلاك وسلاحه في ذلك مقلاع وعصا وبضعة أحجار، واستطاع في النهاية قهر خصمه والحاق الهزيمة به من خلال سلطة العقل وقوة الإرادة والتصميم.

Wednesday, October 19, 2005

لوحـات عالميـة – 66


جـزيـرة المـوتــى
للفنان السويسري ارنـولـد بوكـليـن، 1880

في هذه اللوحة الشهيرة، نرى رجلا متّشحا بالبياض وقاربا شبحيا يعبر مياها مظلمة باتّجاه جزيرة صخرية.
وفي القارب هناك ما يشبه الكفن، وعلى مسافة قصيرة منه نرى صخرتين عملاقتين تظهر وسطهما مجموعة من الأشجار بدت أشبه ما يكون بأشباح عملاقة تحرس المكان.
رسم ارنولد بوكلين هذه اللوحة في العام 1880 وهو في سن الرابعة والسبعين بناءً على طلب ماريا بيرنا، وهي سيّدة إيطالية كان زوجها قد توفي للتّو. وقد طلبت من الفنان رسم لوحة تصوّر تجربة الموت وتجسّد حالة الفقد التي كانت تمرّ بها.
وقد ظلت اللوحة بلا اسم إلى أن أطلق عليها أحد متعهّدي الفنّ اسم "جزيرة الموتى" بعد ثلاث سنوات من إتمامها. أما بوكلين نفسه فقد كان يسميها "جزيرة الصمت".
والحقيقة أن الفنان لم يقدّم شرحا لمعنى اللوحة ولا الرمز الذي تنطوي عليه. وكان معروفا عنه نفوره من إطلاق تسميات على لوحاته أو إعطاء شروحات لمضامينها.
عاش بوكلين، المولود في بازل بسويسرا، معظم حياته في إيطاليا. وكان مفتونا بمناظر الطبيعة، لكنه كان متأثرا أيضا بأفكار الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. وربّما كان سبب اختياره العيش في إيطاليا انجذابه للطبيعة والآثار.
هذه اللوحة كانت مصدر الهام لعشرات الكتاب والفنانين والشعراء. فقد ألف الموسيقي الروسي الشهير سيرغي رحمانينوف سيمفونية بنفس الاسم يمتزج فيها الحنين بالرؤى المظلمة. كما استعار الكاتب روجر زيلازني اسم اللوحة ليضعه عنوانا لاحدى رواياته. وفي العام 1945 ُانتج فيلم سينمائي بنفس الاسم.
في ألمانيا التي زارها في ما بعد، تمتّع الفنان برعاية ملك بافاريا، كما تمّ تعيينه أستاذا للفنون بأكاديمية فيمار التي عمل بها سنتين.
لكنه ما لبث أن عاد مجدّدا إلى إيطاليا ليبدأ رسم هذه اللوحة التي تعتبر اكثر أعماله رمزيةً ورؤيوية.
ويقال بأن الفنان قد يكون استمدّ أجواء اللوحة من زيارته لجزيرة ايشيا ومقابر البندقية.
في لوحات بوكلين الأخرى طبيعة فانتازية وحوريات بحر ومخلوقات أسطورية مجنّحة. وقد كان الفنان على ما يبدو منجذبا كثيرا إلى ظواهر ما فوق الطبيعة، تماما مثل كاسبار فريدريش، لكنه كان متفوقا على هذا الأخير في مسحة التشاؤم والسوداوية التي تطغى على لوحاته.
كان بوكلين يردّد دائما أن اللوحة يجب أن يكون لها معنى كالشعر، وأن تترك انطباعا في نفس المشاهد، تماما مثلما تفعل الموسيقى والشعر.
في السنوات الأخيرة من حياته بدأ الفنان يضمّن لوحاته استعارات ورموزا مزعجة عن مواضيع الموت والظلام.
ويرى النقاد أن رموز ودلالات مشاهد بوكلين الشبحية سبقت ظهور المدرسة الرمزية في الفن، بل وسبقت ما ُسمّي بالتصوير الفرويدي الذي طبع معظم فنّ القرن العشرين.
الجدير بالذكر أن لوحة "جزيرة الموتى" هي اليوم من ضمن مقتنيات متحف المتروبوليتان في نيويورك.

موضوع ذو صلة: جزيرة الموتى